حكومة ميدان

أعلم أن اجترار هذا الشعار الإداري السياسي، قد يغدو ضربا من التكتيك السياسي بالنسبة للدول التي تعاني مشاكل مزمنة، ويصعب حلها، لكنه ليس كذلك في مجتمعنا ودولتنا، مع هذه الحكومة، التي لم يخشَ رئيسها الناس، والاحتكاك معهم، في مناطقهم وعن طريق المؤسسات المكلفة برعاية شؤونهم، فرئيس الحكومة د جعفر حسان لا يجيد التنظير الذي يعتبره «كثير من المفسرين والمحللين» نوعا من المناورة وشراء الوقت والدجل، فالرجل ينأى بنفسه عن «كثرة الكلام»، ويعتمد الموضوعية في فهم وتفسير الأشياء، ولا يجيد «زرع المقاثي» في البحر، ومن هنا كان تركيزه على فعل ما ينفع الناس، قدر استطاعة حكومته، وهذا أداء فيه وصفة قوية لتجاوز البيروقراطية الثاوية في كثير من تفكير مسؤولي القطاع العام، وفي الإجراءات والتشريعات أيضا، وكلنا يفهم ويعلم كيف «يتمرمر» مواطن لإنجاز معاملة، لا سيما حين يحدث خطأ في تلك المعاملة، في زمن أصبحت الإجراءات «إلكترونية»، ولا مرجعيات أو جهات تراجعها، لحل المشكلة وتجاوز الخطأ، سوى «مسج للموقع الإلكتروني».. والأمثلة كثيرة.
لكن حين تتواجد الحكومة في كل الميدان، من خلال رئيسها واجتماعاتها بمجلس الوزراء في المحافظات ومسؤوليها، ومن خلال الوزراء في ميادينهم، ومن خلال مسؤولي وزاراتهم في تلك المناطق.. تذوب حلقات كثيرة، كانت تتطلب مزيداً من الوقت، حيث لا إجراء تتم الموافقة عليه دون تلك التراتبية الطويلة في الوزارات، لكن في الميدان يختلف الأمر، ويصبح التوجيه والقرار مباشرا، ويجري اختزال المدة لتنفيذ مشروع أو إجراء تطوير أو تعديل، لنصفها وأحيانا لصفر يوم، يعني قرار ميداني..
حين نتحدث عن متابعة حكومية ميدانية، فنحن لا ننسى بالطبع ما هي المشاكل التي يمكن للأداء الميداني حلها، فنحن لا نطالب ولا نتوقع مثلا أن زيارة رئيس الحكومة لمحافظة أو لواء أو قرية، واجتماعه بمسؤوليها وفعاليتها، سيحل مشكلة البطالة في تلك المنطقة، أو يغير وجه وشكل المؤسسة التعليمية هناك، لكننا ندرك أن مواجهة الناس والاستماع لمطالبهم وملاحظاتهم، مع وجود المسؤولين الحكوميين للمنطقة، وبحضور الحكومة نفسها، لا يترك مجالا للتسويف، حيث يقتنع المواطن أن كل حلقات القرار متواجدة، ورئيس الحكومة أو الوزير موجود، ويناقش الناس، ويفهم حاجتهم، ومعه طاقمه المالي والإداري، ويمكنه توجيه تعليماته لمسؤولي المنطقة، لفعل المطلوب، وإن ثمة مشكلة ما، مالية أو غيرها، سيقول المسؤول الحكومي المختص «لا يوجد موازنة»، ويجري عندئذ التفكير ببدائل، وكله أمام الناس وأصحاب العلاقة أو المتضررين.
هذا الأسلوب من الأداء والإدارة، يرسخ «الثقة» والمصداقية، ويعزز إيمان الناس بالدولة وقدراتها، وإمكانياتها، وبالتالي يعزز المنطق والموضوعية في المطالبات، فيتحدث المتحدث عن «الممكن» ولا يهاجم الدولة والحكومات، لأنه يفهم من الحكومة وبشكل مباشر، ويدرك أن ثمة مصداقية وشفافية والأهم نوايا حكومية صادقة لخدمة الناس ومشاركتهم في الرأي والتفكير.
شعار العمل الميداني؛ استخدمته حكومات كثيرة في أوقات وظروف سابقة كثيرة، وكلنا نعلم عن موقف أو أكثر، تعرضت فيه الحكومات «لردود فعل ميدانية»، تبين رفض الناس وعدم إيمانهم بصدقية تلك الحكومات، أو مقدرتها الفعلية على إحداث تطوير وتغيير من أي نوع، لكن هذه المواقف لا تحدث مع حكومة جعفر حسان، ولم نسمع عن موقف واحد، تم خلاله إجهاض لقاءاتها الميدانية، أو تواجدها في بعض المرافق والمشاريع الخدمية، والمؤسسات في المناطق الواقعة خارج العاصمة.. وإنني أعتقد أن حكومة جعفر حسان قدمت نموذجا مقبولا من العمل الميداني، لم تسبقها حكومة أردنية بتقديمه، ولا أقول بالطبع بأن الوضع مثالي، لكنه «موضوعي»، وفيه مصداقية.. وهذا ما افتقدناه في السنوات الأخيرة، حيث يتراكم اليوم منسوب ما من الثقة بين الناس والدولة والمؤسسات.. وتختفي الشعارات والمزايدات.