نحتاج للكلام المحسوب ابراهيم عبدالمجيد القيسي

اللغو، والثرثرة، والسخرية.. حتى السجال النخبوي، قد يكون في ظروف ما، كلاماً من فضة، بينما السكوت من ذهب، وفي مثل ظروفنا هذه، أعتقد أن من الكياسة أن لا نتحدث في السياسة إلا بعد تفكير.. ومن هنا أعتقد أن صمت بعضنا يمكن ان يكون عبادة مطلوبة، فعدم الكلام ينفع الناس، والتلفظ به على رؤوس الأشهاد (في الإعلام يعني)، ربما يكون من «حصائد الألسنة» التي تهوي بقائلها سبعينات من الفصول القاحلة ..
من بين الأسئلة التي تثار اليوم، ما يتعلق بعدم تقديم الحكومة «كلاما» يوازي التهديدات الإسرائيلية العدوانية، حسب المتسائلين بالطبع، لكن هل هذا مايجري فعلا؟.. أعني هل يوجد «كلام» في ذهن او بطن الحكومة، ولم تقله ردا على هذه التهديدات؟
العالم كله يعاني من ردّة عن القانون الدولي والإنساني، على خلفية صمته عن جريمة الإبادة المستمرة ضد الفلسطينيين، وثمة إدارة مجنونة للكلام المتعلق بمواقف الدول، فالتصريحات السياسية الصادرة عن رؤساء وحكومات الدول، او مراكز القوى في العالم، موجهة بدقة كبيرة، لخدمة أجندات وأهداف مبهمة، ولو تعمق الباحثون في دراسة هذه الظاهرة، لخرجوا بنتائج نوعية، عن مصطلحات وفنون نوعية في إدارة الكلام والتعبير عن المواقف السياسية.
هناك غموض مقصود في التصريحات، قابل لأكثر من فهم وقراءة وتفسير، وعلى سبيل المثال: يوجد دول اوروبية قوية، ومواقفها السياسية ثقيلة في الميزان الدولي، لكنها تظهر كما يظهر الأردن في موضوع تقديم الغذاء والدواء لأهل غزة المنكوبين، فتجدها تشارك مثلا بالإنزالات الجوية، بينما يمكنها ان تستخدم «الفيتو» في مجلس الأمن، وأن تتخذ تدابير ومواقف أخرى ضد اسرائيل، ويوجد أيضا دول تطالب بدولة فلسطينية، وتقترح بأن الاعتراف بهذه الدولة ووجودها، مؤجل حتى نهاية سبتمبر..!.
الجريمة الكبرى تحدث بلا انقطاع، ومرشحة للتفاقم والانتشار ونشر الفوضى في أكثر من مكان، ودولة مثل الأردن، وكل تاريخها يشهد، بأنها لم تدخر جهدا ممكنا إلا وقدمته للقضية الفلسطينية، ولو كان بمقدورها فعل أكثر مما تفعل لإنقاذ مواطني غزة من القتل والتشريد والجوع، لفعلت، وعلى الرغم مما تقدمه الأردن من جهود إغاثية، إلا أنها «لا تكفي»، وهذا ما كرره جلالة الملك أكثر من مرة، وهو ما يسعى له الأردن منذ اليوم الأول لانطلاق آلة الإجرام في إبادة الفلسطينيين في غزة وغيرها.
كل المنطقة مفخخة بفتائل انفجارات وقنابل، وفوضى، وليس من السياسة ولا من الحكمة أن ننجرف مع التيار الفوضوي، ونطلق تصريحات غير محسوبة، ففي الوقت الذي يمكن لدول أخرى ان تعبر عن مواقفها المتضاربة، لا يمكن للأردن إلا أن يكون واضحا وصادقا في مواقفه وأفعاله، وازنا في تصريحاته، ملتزما بل ملتصقا بالقانون الدولي ومنظومته، ولا يسمح له بالمغامرة، بينما يقع في قلب برميل من المتفجرات.
حالة الحذر والحسبة الدقيقة للمواقف والكلام، التي يلتزم بها الأردن، يجب أن تكون هي حالة السياسيين الذين لا يشغلون مواقع رسمية، ويجب أن يقولوا ما ينفع البلاد والناس، أو أن يصمتوا، وذلك هو المطلوب الآن، سيما وأن الرهان على الجبهات الداخلية في البلدان العربية وربما غيرها، رهان معتمد في ذهنية من يريدون تفتيت الدول والكيانات من أجل مشاريعهم التدميرية الكبيرة.