السلام بالقوّة إسماعيل الشريف

الرئيس وأنا نؤمن بعقيدة تُسمّى السلام بالقوة. أوّلًا تأتي القوّة، ثم يأتي السلام- نتن ياهو.
قبل أن تبدأ معركة القادسية، انتاب رُستم - قائد جيوش الإمبراطورية الفارسية المترامية الأطراف - فضولٌ عارم لمعرفة حقيقة هؤلاء المحاربين الذين وصفهم بـ»الحفاة العراة الهمجيون» والذين تجرؤوا على مواجهة أقوى قوة عسكرية في العالم. فبعث برسالة إلى سعد بن أبي وقاص، قائد الجيش الإسلامي، يطلب منه إيفاد أحد رجاله للحوار والتفاوض، فوقع الاختيار على المحارب ربعي بن عامر.
لم يكن ربعي من الشخصيات اللامعة في دوائر السياسة، بل كان جنديًّا بسيطًا من عامة الصحابة، اشتُهر بتقواه وزهده. ولعل هذه الصفات كانت الدافع وراء اختياره، فسعد - بفطنة القائد المحنك - أدرك أن الفرس غارقون في بحور الترف والبذخ، فرأى أن مواجهة هذا الغنى الفاحش تتطلب رجلًا زاهدًا لا تُبهره المظاهر الخادعة ولا تُذهله القصور.
وصل ربعي ممتطيًا فرسًا قصيرة القامة، يرتدي ثوبًا بسيطًا خشن الملمس، في هيئة متواضعة تخلو من كل أشكال الزخرف والتنميق. وقد كان التباين صارخًا بينه وبين خيمة رستم الفخمة؛ حيث تألقت الأرضيات بالديباج الفاخر والحرير المنسوج بخيوط الذهب، وتلألأت الجواهر النفيسة في جنبات المكان، بينما اصطف الحراس في صفوف منتظمة تعكس سيوفهم وهج الأنوار المبهر.
مر ربعي بهذا المشهد الباذخ دون أن يرف له جفن أو تخفق له نبضة، بل تقدم بخطوات واثقة مطمئنة، وأوثق جواده بأحد أعمدة الخيمة الضخمة، ثم غرس رمحه بقوة في البُسط الثمينة فشقها دون مبالاة، متجاهلًا كل ما يحيط به من أبهة مصطنعة، وغير آبه بوجوه الحاشية التي احمرت غضبًا واستعدت للتدخل. غير أن رستم رفع يده واقفًا إياهم بكلمة حاسمة: «دعوه».
جلس ربعي على الأرض في بساطة أثارت حيرة رستم وأذهلت من حوله من الجنود والحاشية. فتوجه إليه رستم بسؤال تشوبه الدهشة: «ما الذي جاء بكم؟»، فأجابه ربعي كلمات حفرت في ذاكرة التاريخ: «الله ابتعثنا، والله جاء بنا، لنُخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام».
لم يذكر رِبعِيٌّ مطامع مادية أو أطماع في الذهب والأرض، بل طرح رسالة إلهية تحررية في أنقى صورها. وكان رستم يترقب حديثًا مألوفًا عن الغنائم والأموال، فإذا به يواجه مطلبًا لم تسمع به الأذان من قبل؛ مطلبًا يتسامى فوق لعبة السياسة ومساومات المصالح، ويحلق في آفاق أوسع مما عرفته حضارات العالم العتيقة.
اعترى رستم ذهول عميق وتملكته رهبة المشهد، فالتفت نحو مستشاريه معلنًا بصوت مليء بالإعجاب: «لقد أُكرم هذا القوم بشرف لا نظير له في التاريخ». وبعد أيام معدودة اندلعت معركة القادسية، فانتصر المسلمون انتصارًا باهرًا، مهدوا به الطريق لانهيار الإمبراطورية الفارسية أمام قوة الإيمان واليقين والبساطة.
تقف هذه الواقعة التاريخية شاهدًا قاطعًا ودحضًا حاسمًا لكل الادعاءات الزائفة التي روجها المؤرخون المتحيزون بأن الإسلام انتشر بحد السيف. فهل يستطيع الإكراه والعنف أن يزرعا بذور الإيمان الحقيقي في القلوب؟ إن الإيمان نور رباني يهدي الأرواح ويضيء دروب الهداية.
استحضرت هذه القصة الخالدة بعد العملية الفاشلة المكشوفة التي دبّرها الكيان الصهيوني المحتل على الأراضي القطرية، في محاولة يائسة لاغتيال وفد حماس التفاوضي. وبدلًا من أن ينكفئ مجرم الحرب نتن ياهو خجلًا من فضيحته، رأيناه يتمادى في غطرسته الإجرامية دون ذرة من الندم أو الاعتذار، بل يطلق تهديداته الجوفاء صوب العواصم العربية متبجّحًا بأنه سيكرر استهدافها مستقبلًا.
لا يأبه مجرم الحرب نتن ياهو بردود الفعل العربية الغاضبة أو الإدانات الدولية المتصاعدة إثر مغامرته الفاشلة، بل يستمر في تسويق أكذوبته المفضوحة بأن السلام لا يتحقق إلا بالقوّة، فيردّد: «السلام بالقوّة»، وأحيانًا: «القوّة أولًا ثم السلام». فهو مقتنع تمامًا أن تفوق كيانه العسكري والأمني هو السبيل الوحيد لإجبار الآخرين على الرضوخ للتسويات. ويتخذ من هذا الشعار الأجوف ذريعة لتبرير رفضه إقامة دولة فلسطينية، ولدفع عجلة مشروعه «الإبراهيمي» المشبوه، مدعيًا زورًا أن نجاحاته السياسية لم تتحقق إلا بعد أن برهن كيانه على تفوقه العسكري.
وليس نتن ياهو ظاهرة فريدة في هذا المنهج المدمر؛ فقد سبقه على هذا الدرب ثلة من الرؤساء الأمريكيين، بدءًا من ريغان وانتهاءً ببوش الابن، وصولًا إلى ترامب الذي جعل من هذا المصطلح الفج شعارًا مدويًا لحملته الانتخابية، بل تجاوز ذلك حين أقدم على تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، كاشفًا بذلك عن النوايا العدوانية الحقيقية للإدارة الأمريكية.
لا تنفصل هذه المقولة الجوفاء عن سلسلة الشعارات المضللة التي رفعها الاستعماريون عبر التاريخ تحت لافتات خادعة مثل «رسالة التحضر» و»نشر المدنية الغربية». فهي تُطرح في معناها الظاهري كجسر نحو السلام الموعود، لكنها في جوهرها قناع ماكر يُخفي خلفه مشاريع الهيمنة العسكرية والتوسع الاستيطاني، وتبريرًا مقنعًا لحملات الإبادة الجماعية وتهجير الشعوب الآمنة ونهب ثرواتها المدفونة.
يتوهم مجرم الحرب نتن ياهو أنّ العرب والمسلمين يشبهون ألمانيا النازية أو اليابان، اللتين سقطتا تحت وطأة القوة الغاشمة ثم خضعتا لسلام مُملى من المنتصرين المتغطرسين. لكن شواهد التاريخ الراسخة تبرهن أن القوة المسلحة قد تُذل الأمم لفترات محدودة، إلا أنها عاجزة عن صياغة سلام أصيل أو بناء استقرار متجذر. فالولايات المتحدة أخفقت في ترويض فيتنام وأفغانستان، والإمبراطوريات العملاقة ما لبثت أن تداعت وانهارت حين تراخت قبضتها الحديدية عن الشعوب المقهورة، فانتفضت تلك الأمم بقوة وكان مصير تلك الإمبراطوريات السقوط المدوي والاندثار الأبدي.
أما الشعوب العربية والإسلامية فتحركها عقيدة راسخة لا تتزعزع وتراث نضالي عريق قائم على محاربة المحتلين الغاصبين والاستشهاد في سبيل الله. ومجرم الحرب نتن ياهو، رغم مرور عامين كاملين من حملات الإبادة الوحشية، ما زال عاجزًا عن فرض سلامه المزعوم بحد السيف؛ فلا تزال العمليات الاستشهادية البطولية تخترق قلب كيانه المحتل، ولا تزال صواريخ الحوثيين تصل بدقة إلى مطاراته ومنشآته الحيوية، شاهدة حية على عجزه المطلق ووهم شعاراته.
قد تضعف حركات المقاومة أحيانًا، وقد ينال الكيان الغاصب انتصارًا عسكريًا مؤقتًا، لكن سرعان ما تتفجر بؤر جديدة للمقاومة، وتنبري مناطق أخرى لمواصلة الكفاح. فنحن أمة عريقة قد تُبتلى بالضعف أحيانًا ولكنها لا تندثر أبدًا، وقد تمرض لا تموت. ويدرك نتن ياهو في قرارة نفسه، كما ندرك نحن بيقين لا يتزعزع، أن زوال الاحتلال الغاشم حتمية تاريخية لا مفر منها، مهما طال به الزمن.