التحوّل الرقميّ في السياسة الأميركية من جافيتس إلى الذكاء الاصطناعيّ
اللحظة الاخباري -
في عام 1962، نشرت صحيفة "شيكاغو تريبيون" Chicago Tribune خبراً طريفاً من مؤتمر الحزب الجمهوري في بوفالو، نيويورك، حين أعلنت أن السيناتور الأميركي جاكوب جافيتس أصبح أول سياسي "مؤتمت بالكامل". وأشارت إلى أن "النسخة الإلكترونية" من جافيتس كانت تصدر ردوداً مطبوعة على أسئلة متنوعة، من القضايا السياسية، مثل تهديدات الصواريخ الكوبية إلى فرص فريق البيسبول "كابز" Cubs في الفوز. لم يكن جافيتس الأخير في هذا المجال، فمنذ ستينيات القرن الماضي، تصاعد الاعتماد على التكنولوجيا في الحياة السياسية الأميركيّة، سواء في إدارة الحملات الانتخابية أم التواصل مع الناخبين.
هذا التحول الرقمي لم يكن من دون عواقب؛ فقد تراجعت ثقة المواطنين في الحكومة بشكل ملحوظ. في الستينيات، بلغت نسبة الأميركيين الذين يثقون بقدرة الحكومة على اتخاذ القرارات الصحيحة نحو 80%، بينما انخفضت هذه النسبة اليوم إلى نحو 20%. وبفضل الكمبيوترات والخوارزميات التنبّئية، ساهمت الأتمتة السياسية في تعميق الاستقطاب وزيادة انعدام الثقة، مما خلق ناخبين يشعرون بالغربة، ونخباً سياسية تخشى التبعات المتوقعة لكل قرار تتخذه.
في عام 2024، اعتمدت حملة نائبة الرئيس كامالا هاريس على شركة "فيوتشر فوروارد" Future Forward، وهي أكبر لجنة عمل سياسي في الولايات المتحدة، بينما لجأ دونالد ترامب إلى أتمتة حملاته باستخدام أدوات خوارزمية خاصة. وبالرغم من أن الأتمتة دخلت الساحة السياسية لتحسين الفاعلية، أصبحت اليوم أداة لإثارة الانقسامات السياسية بين المواطنين.
وفي تقرير صدر عام 2023 عن مختبر الاقتصاد الرقمي في جامعة ستانفورد بعنوان "أوراق الديجيتال" The Digitalist Papers، نوقشت إمكانيات الذكاء الاصطناعي في إنقاذ الديمقراطية الأميركيّة. يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي قد يعزز النيوليبرالية ويحدّ من الحريات، فيما يحذّر آخرون من أن السياسة المؤتمتة تهدّد الديمقراطية في دول عديدة، لا في الولايات المتحدة فقط. ويقدّم الفيلسوف ماتياس ريسي مفهوم "حقوق المعرفة"، الذي يدعو إلى حق الأفراد في الوصول إلى المعلومات أو اختيار عدم معرفتهم، معتبراً أن الحفاظ على الديمقراطية يتطلب اتخاذ قرارات صعبة بشأن التكنولوجيا.
" الدولة الاصطناعية" ليست حكومة سرية، بل هي شبكة اتصالات رقمية يديرها استراتيجيون سياسيون وشركات خاصة، تقوم بتبسيط السياسة إلى مجرد خوارزميات تهدف إلى جذب الانتباه واختبار الرسائل، مما يقلّل من فرص المواطنين في المشاركة الفعلية. ووفقاً لاستطلاع أجرته جامعة هارفارد عام 2021، يعتقد أكثر من نصف الأميركيين، من ذوي الأعمار ما بين 18 و29 عاماً، أن الديمقراطية الأميركيّة "في خطر" أو "فشلت". إن "الدولة الاصطناعية" تُعرّض الحياة الديمقراطية لمخاطر كبيرة، حيث تتراجع الحوارات الفعالة والحقيقية لصالح التنبؤات الحسابية والقرارات المعتمدة على التحليل الرقمي.
ومع تطور التكنولوجيا، أصبح اعتماد السياسيين على الخوارزميات في الحملات الانتخابية واقعاً، إذ تطور الذكاء الاصطناعي من أداة لتحليل بيانات الناخبين إلى قوة تسيطر على الخطاب العام. وبدلاً من دعم الديمقراطية والحرية كما وعدت شركات التكنولوجيا، أدى هذا التطور إلى سيطرة المؤسسات الخاصة على الحوار السياسي.
في السنوات الأخيرة، زادت الدعوات لجعل التكنولوجيا الرقمية أكثر خدمةً للصالح العام من خلال تطوير تشريعات وضوابط جديدة. على سبيل المثال، اقترح الاتحاد الأوروبي "قانون الخدمات الرقمية" و"قانون الأسواق الرقمية" لضمان شفافية المنصات الكبرى وتعزيز المنافسة العادلة، مما يسهم في حماية المستخدمين وتعزيز الديمقراطية.
وفي الولايات المتحدة، دعت مجموعات مناصرة إلى "قانون المساءلة في الخوارزميات" لضمان أن تكون القرارات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل التوظيف والإعلان أكثر عدلاً وأقلّ تمييزاً؛ ويعتبر هذا القانون خطوة نحو مساءلة الخوارزميات في القضايا الحقوقية، بالرغم من تعقيدات تطبيقه.
في ظل هذا التوجه العالمي نحو تنظيم التقنية، تبرز أهمية الذكاء الاصطناعي المتزايدة في السياسة والإعلام، إذ أصبحت الخطابات السياسية مؤتمتة ومرتبطة بالآلات، ولم يعد دور الذكاء الاصطناعي مقتصراً على التأثير في المجال العام، بل امتد إلى إنتاج محتوى سياسي تتحكّم به "روبوتات" أكثر من البشر. هذا التداخل بين المعلومات والحقيقة على الإنترنت ساهم في تأجيج نظرية "الإنترنت المزيف"، التي تشير إلى أن كل شيء على الإنترنت يمكن أن يكون مزيفاً.
لإصلاح هذا الوضع، يقترح الخبراء تأسيس بنية تحتية رقمية تشبه المكتبات والحدائق العامة، تعتمد على هيكل تنظيميّ يعزز "حقوق المعرفة"، ويعمل على حماية حقوق الأفراد من التلاعب الرقمي. وبالرغم من أن بعض الأفكار مثل "يوتوبيا الذكاء الاصطناعي الديمقراطي" قد تبدو خيالية، فإنها تعكس مخاوف متزايدة من الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي.
يرى البعض أن هذه الثورة التقنية قد تعزز الديمقراطية، لكنها في الواقع حوّلت الدولة إلى "دولة اصطناعية"، حيث استولت الآلات على دور الإنسان. ومع أن تفكيك هذا النظام الرقمي يبدو صعباً، فإن ذلك ليس مستحيلاً، فكما تخلصت البشرية من أنظمة سياسية سابقة، يمكن التخلص من "الدولة الاصطناعية" أيضاً.