2025-09-22     عدد زوار الموقع: 6094116

أصوات لا يمكن كتابتها ابراهيم عبدالمجيد القيسي

اليوم، غريبة هي الدنيا، وغريب ما فيها، وحقا إننا نكتشف بأننا كنا نجهلها أمس، وغدا ستنجلي أكثر.. وأحيانا نراهن على الأيام، أن تكشف لنا خباياها، فهي تصمت طويلا عن الإفصاح عما تعرفه، خشية أن يؤذي «المعنيين»، وكذلك يمكن وبكل ثقة أن ننتظر من الزمن كي يجيب عن سؤال يتعايش معنا، ويهيئ مداركنا وعقولنا لمزيد من تمدد واتّساع.
لكن تتجلى قسوة الزمن وصعوبة الحياة، وتوالي الأيام، حين تجيب عن أسئلتك إجابات صاعقة أو مؤلمة، فتشعر بما هو أكثر من الخذلان، وربما تفقد كل أنواع الإيمان، وقد تقول «واغربتاه»، حين تألف الدنيا والحياة والناس والفرح والحزن وسائر المتضادات، فتكتشف بأن كل ما فهمته وعرفته وبنيت عليه ثقافتك ومبادئك، غير موجود فعلا في صفحات الأيام، بل كنت تقنع نفسك بأن ما تعرفه هو حقيقي وصحيح، وتميزه عن الكذب والأخطاء.. «أتاري كله.. كله كذب».
أنا لا أتفلسف عليكم بهذه الكتابة، بل أعجز عن كتابة ما أعرف، لأنها معلومات تشبه بعض الرموز الصوتية والحركية في بعض الثقافات، ولأننا نكتب حروفا عربية، فلا يمكن أن نضع رسمة مثلا خلال النص، يعني على سبيل المثال، لو أردنا أن نعبر عن دوخة أو دوران في رؤوسنا، ربما نشير بإصبع السبابة للرأس، ثم نحرك إصبع السبابة قرب الرأس بحركة دورانية، فيفهم كثيرون ان الشخص يريد أن يقول بأنه يعاني دوارا او صداعا أو دوخة في رأسه أو دماغه.. او حتى مخمور ومتعاط لمخدرات، فيتمكن بلا كلام من توصيل المعنى للمتلقي.
وثمة مواقف ومعلومات قد تعرفها وتفهمها او تكتشفها بلا سؤال ولا قراءة، ولا يتوارد على الألسنة ..مثلا:
 في زمن كان نديّا بالأمل والتفاؤل، كنت شابا «بهد حيط بذراعي»، وبرفقة أحد الأصدقاء، كنا نساعد مضيفنا الذي يحظى باحترامنا الكبير، فهو كان بالنسبة لنا رجلا كبيرا بالعمر، و»نعاونه» في عمل منزلي، كمساعدة ونخوة منا، وكان له طفل صغير لطيف «ينطط ويتزروق» كقط بيننا، وعندما شارفنا على الانتهاء من العمل، نطق الطفل بعدة كلمات لا يمكن أن يفكر بها او يقولها طفل، ولم أتمكن من نسيانها منذ أكثر من 40 عاما، ولا أتحدث عن الإحراج الذي سببته هذه الكلمات، بل كنت وما زلت أشغل كل خيالاتي ومخزوني من القدرات التحليلية، منطق، علم، دين، فلسفة، علم اجتماع، زعرنة.. الخ، أتقصى من أين جاء هذا الصغير بهذه الكلمات!! فعندما كان المضيف يمدحنا ويشكرنا بامتنان كبير، ويثني على جهودي وصديقي بمساعدته في إنجاز العمل، قال الطفل (يابا ابراهيم وفلان يريدان أجرتهما)!!..
 فشعرت بإحراج شديد من كلام الطفل، الذي كان والده مقتنعا مثلي، بأنه لا يمكن لطفل أن يؤلف تلك الكلمات بنفسه..
حقا أتساءل حتى اليوم: من وضع تلك الكلمات المستهجنة على لسان ذلك الطفل الصغير، ومن أين جاء بها؟.. وكلما تذكرت وصديقي ذلك الموقف، نتساءل معه بالتساؤل نفسه.
هل تستطيعون اقتراح وتمييز صوت أو كلمة لا يمكنني كتابتها بعد سرد هذه القصة القديمة؟!.
مرة أخرى نطق الطفل بعبارة لا يمكن كتابتها، ولم أجد رمزا ثقافيا حركيا ولا صوتيا، ينقلها او يشرحها للناس، وبعد كل هذا العمر والخبرة، ازداد وجهي احمرارا وربما اسودادا فوق القشعريرة التي تغلف جلدي كله، حتى أنفاسي، فالطفل كبر وتزوج وأصبح رب عائلة، وكبرت معه الموهبة، وتقلبت الدنيا بي وبصديقي، وها هو للمرة الثانية يقول شيئا لا يمكن أن يستقر على لسانه الا بفعل فاعل، أنا ما زلت أتساءل عن مصدر تلك الكلمات المخزية التي نطقها لسان الطفل، فهل كان صديقي خبيثا الى تلك الدرجة، ولقنها آنذاك للطفل، ربما آنذاك واليوم أيضا.



شارك الخبر

استطلاع الأراء
هل تؤيد رفع اسعار الدخان وفرض ضريبة ؟

22909 المؤيدين

22738 المعارضين

22694 المحايدين

محايد لا نعم