نضج الصمت وأصبح صوتاً رمزي الغزوي

لسنوات طويلة ظل جيل «زد» يعيش في الظل، يتلقى الأحكام الجاهزة من حوله: جيل كسول، منعزل، غارق في الشاشات، فاقد للأمل. كان يُنظر إليهم كغرباء في زمن لا يفهم لغتهم. ومع ذلك لم يصرخوا ولم يحتجوا. صمتوا، راقبوا، فهموا، وتعلموا. واليوم يبدأون بكتابة فصل جديد من قصة هذا العالم.
جيل زد، المولود بين أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، لم يرد أن يكون نسخة مكررة عمن سبقه. فهو أعاد تعريف معاني كثيرة: من شكل الوظيفة إلى ملامح الهوية، من السياسة إلى مفهوم العلاقات. في بيئة العمل لا يرون أنفسهم موظفين، بل شركاء أحياناً يبحثون عن الشفافية والمعنى قبل الراتب. وفي الحياة اليومية يفضلون الأصالة على المجاملة، والهدف على المظاهر.
لكن أكثر ما يثير الانتباه هو تحولاتهم السياسية والاجتماعية. في نيبال مثلا، قبل أسبوعين لم يحتمل شباب هذا الجيل قرار السلطات بقطع وسائل التواصل الاجتماعي، فخرجوا إلى الشوارع في تظاهرات غاضبة تحولت إلى ما يشبه الثورة عارمة أطاحت بالحكومة. بالنسبة لهم، لم يكن الأمر ترفا رقميا، بل اعتداء على فضاء وجودهم وهويتهم. لقد أثبتوا أن حضورهم لا يقتصر على العالم الافتراضي، بل يمتد إلى الواقع، حيث يرفعون أصواتهم دفاعا عن حقهم في أن يكونوا مرئيين.
وجيل زد أيضا هم أبناء زمن كورونا. تلك الجائحة التي سرقت منهم سنوات التشكل وأول اللقاءات. كثير منهم لم يحتفل بمراهقته كما ينبغي، ولم يختبر عناق صديق الطفولة، ولا صخب الفصل الدراسي. لذلك حين يتجنبون النظرات المباشرة أو يتحدثون بسرعة زائدة، فربما لأنهم لم يتعلموا كيف ينضجون اجتماعيا في ظل العزلة.
ومع هذا كله لم ينكسروا. بالعكس، صنعوا من هشاشتهم طاقة خلاقة. أبدعوا محتوى، ابتكروا أنماط حياة جديدة، وشيدوا مجتمعات رقمية دافئة بلا حواجز. قد لا يلتزمون بالإتيكيت التقليدي، لكنهم يملكون براعة في بناء عوالم افتراضية يشعر فيها الآخرون بالانتماء.
الميزة المهمة أن هذا الجيل لا يطلب الإذن ليكون. هو حاضر، بضحكاته وخوفه، بتمرّده واشتياقه لأشياء لم يعشها. وفي هذا العام لم يعد متابعا للتغيير، بل صار جزءا من صناعته. يعيد تعريف العالم عبر أسئلته لا عبر إجاباتنا الجاهزة. ولهذا ربما آن الأوان أن نتوقف عن الحكم عليه بمعاييرنا القديمة، وأن نقترب منه بتواضع وفضول صادق. أن نسأله لا أن نملي عليه: كيف ترى العالم.
فالمستقبل، على ما يبدو، لم يعد يُكتب بأيدي الكبار، بل على يد أولئك الذين صنعوا من العزلة بصمة، ومن الاختلاف صوتا، ومن الصمت حضورا.