2025-08-21     عدد زوار الموقع: 6053296

فوتيك..

لا أريد أن ينتهي هذا الأسبوع، دون أن أكتب في هذه الزاوية اليومية خاطرة أخرى عن العسكرية الجميلة..

هل كانت والدتي أطال الله في عمرها، أثناء قيامها بغسيل ملابسنا العسكرية، تتذكر قصة والدي رحمه الله، القصيرة، عن انتسابه للحرس الوطني؟!.. كان رحمه الله، بريّا، يحب الحياة في البر، وبيوت الشعر، ولا يطيق المدنية في شيء، ورغم ما فهمناه من عتاب أشقائه وأبناء عمه عن تركه السريع للحياة العسكرية، الذين كانوا يقولون لنا: كان والدكم الوحيد بيننا الذي يجيد القراءة والكتابة، ولو لم يترك الجيش لترفّع ووصل رتبة عسكرية كبرى، فكل المتعلمين كانوا سرعان ما يصبحون ضباطا، لكنه «برّي»، ولا يأنس لأحد، سوى للبرّ وبيوت الشّعر..

ما الذي كان يدور في ذهن والدتي وهبها الله الصحة والعافية، في أيام إجازتنا، حيث مر وقت كنا 4 أشقاء (محمد وأنا ومصطفى وطالب)، عسكر، نعود نهاية الأسبوع، ومعنا ملابسنا العسكرية، الفوتيك والتكميل، وعدة مناشف «بشاكير» عسكرية، وكانت تحرص والدتي على غسلها جميعها بوجبة واحدة، فيمتلىء حبل الغسيل بملابس الفوتيك، وكان يتندر بعض ضيوفنا حين يلجون باب الحوش الواسع، ويشاهدون حبال الغسيل مملوءة بالفوتيك.. وعلق أحدهم يوما ( الحبال كلهن فوتيك، معناته كل الكتيبة موجودة).

شقيقنا الأكبر محمود، حفظه الله، لم يشمله قانون خدمة العلم، حيث شمل مواليد العام الذي يلي عام ولادته، أما شقيقنا أحمد، رحمه الله وجعل الجنة مأواه، فكان أول عسكري من بيتنا بعد المرحوم والدي، فقد خدم جنديا نظاميا حين كان القانون يسمح بالتسجيل عسكري نظامي وليس مكلفا، لمدة 4 سنوات، دخل عريفا، ولم يخرج رقيبا بل جندي ثان ! ومحمد وأنا خدمنا خدمة العلم، محمد كان يخدم في قيادة الجيش الشعبي، وأنا كنت عسكريا مرّا في الشرطة العسكرية، لكن مصطفى خدم ممرضا بالخدمات الطبية الملكية، ووصل الى التقاعد، بينما طالب، تم قبوله طالبا في كلية الهندسة بجامعة مؤتة، فتخرج منها ملازما، ثم مكث في الجيش عمرا، وتقاعد مقدما أو عقيدا، أما شقيقنا الأصغر المهندس عبدالرحمن، فقد توقف برنامج خدمة العلم على دوره، ولم يخدم بالجيش.

لو أجد الوقت حين أزور والدتي في القرية، لقمت بتنفيل «أغراضها»، التي تحفظها حتى اليوم في حقائب وأكياس، وربما كنت سأجد بعض بدلات الفوتيك، أو البساطير والفلدات «جمع فلدة»، وقد نجد معطفا عسكريا «صاك»، أو بوريه، وقايشا أو نطاقا أحمر أو غيره، فأنا أتذكر بأنني كنت أرتدي الفوتيك حتى بعد أكثر من 10 أعوام على إنهائي للخدمة العسكرية، وما زلت أتوق لأن أعيش بعض تلك الأيام الجميلة، حيث يزداد جمالها كلما تذكرناها، وتذكرنا حكاياتها.

إن أصدق أوقات العمر، وأكملها بنبض الحياة الصادقة، هي أوقات الخدمة العسكرية، وشبابها الأغزر بالحيوية والنقاء والرضى، ورغم حجم «التذمر» الذي كنت أرصده من هذا المستوى من الرتب العسكرية «المكلفين»، إلا أنني لم أكن متذمرا، ولا متنمرا على المدنيين والعسكريين «أثناء إجازاتهم»، فقد كنت أخدم بالشرطة العسكرية، وكانت كل واجباتنا تختص بالتزام العسكر خارج معسكراتهم، وأثناء إجازاتهم، ومدى تقيدهم بالضبط والربط العسكري، حتى في مسيرهم بالشوارع وهم يرتدون الزي العسكري، الشعر الطويل يستحق مخالفة، وعدم ارتداء البوريه مخالفة، ودخول السينما والفنادق بالزي العسكري مخالفة، والتجاوز عن مدة الإجازة الرسمية، ولو بساعة واحدة، مخالفة توجب توقيف العسكري وتسليمه لوحدته.. وعدم أداء العسكري للتحية العسكرية لأي ضابط يمر أمامه أيضا مخالفة.. وسير السيارات العسكرية دون إذن حركة مخالفة، والوضع الفني والشكلي للمركبة العسكرية، حتى لو كانت تعرضت للغبار والطين، نقوم بمخالفتها، ولو لم يكن معها إذن بالحركة، نقوم باحتجازها، ثم تسليمها للوحدة التابعة لها..

كل الحياة العسكرية التزام وانضباط، لأن العسكرية هي أم النظام والقانون وعنوان سيادة الأوطان، واستقلالها.



شارك الخبر

استطلاع الأراء
هل تؤيد رفع اسعار الدخان وفرض ضريبة ؟

21130 المؤيدين

20932 المعارضين

20886 المحايدين

محايد لا نعم