موت بالألوان

نحن سكان الأراضي ذات المناخات المعتدلة، نكابد تفاصيل الحر حين يداهمنا، كما نكابد انفلات عقال الإجرام، وكلما كانت أجسادنا مكتنزة بالعضلات، وعقولنا بالمبادئ والأخلاق، ازدادت معاناتنا..
ومع انطلاق ليل أمس الأول، تماوجت الانترنت بخلجات قلوب ذات نفاق مضطرب مألوف، اعتدنا أن نشاهده او نقرأه في العامين الأخيرين، وكانت بداية جولة الإبحار بالإنترنت، ثكلى، بخلطة جماهيرية نفسية من التعاطف والحزن والكمد المأفون، وكلها، تدور في فلك العلاقة الإنسانية الحيوانية، أعني تحديدا بفتاة واسمها جيسيكا، حين أصبحت لقمة سائغة لحوتها الذي أطعمته وسمّنته، فتعملق وأصبحت هي بحجم لسانه، فلقمها الحوت الذي رافقها باستعراضات دأبت «الناس الرايئة» على حضورها ومشاهدتها، وطالما صفقوا للحوت وصاحبته، ثم اكتشفنا أن الحوت «كان صابرا عليها»، يحتفظ بها لعرض من موت غريب، حين جعلها هي العرض المثير..
وكنت كعادتي؛ أجلس في منطقة مفتوحة منعزلة، وأبحث عبر هاتفي عن اللقطة «حين ابتلعها الحوت، وصبغ موتها الأحمر بركة الماء».. ولم أجده!
حيث قفز امامي فيديو لحالة مشابهة لكن في مستشفى، يقوم خلاله جندي او ربما مسخ بشري، بإطلاق النار ليقتل إنسانا أعزل، كان المقتول مطروحا سلفا على الأرض، ولم اكترث كثيرا بالمشهد، كالقاتل نفسه، الذي لم يكلفه الأمر سوى كبسة بسبابته اليمنى على زناد بندقية، وأنا كبست بالسبابة نفسها، لأبحث من جديد عن لقطة الحوت.
واندهشت، لأنني لم أكن أشعر بقدومها، حين داهمتني وعمان كلها، سحابة من غبار حقيقي، دفعتني ان أنظر حولي، فوجدت الدنيا تعج بالغبار، ولا شيء يمكن رؤيته مع هذا الليل المتواري خلف غبار مفاجىء، وموت كثير، فعدت ابحث عبر شاشة الهاتف، فإذا بفيديو آخر، قادم من مدينة الكوكب المخذولة المنكوبة، وأسطورتها المقيمة، التي أثخنت العالم كله بالغربة واقنعته، بانه عالم ممسوخ، بلا أدنى منسوب من حس..
فهذا الفيديو كان يحتوي مشاهد لصحفيين اثنين من غزة، مراسلين لقناة الجزيرة، تم اغتيالهما بحرقهما بقذيفة سقطت مباشرة على الخيمة التي اعتادا ان يأويا إليها.. كان الناس يجرجرون جثتيهما التي ما زلت تشتعل، ودمهما طازج، يشع احمرار رغم العتمة والدخان، وسحابة الغبار..
المؤمنون يقولون إن الله سينتقم للأبرياء يوما، وأنا أؤمن بأن الناس العرب والمسلمين، سيفعلون ايضا، ولن تذهب سدى، هذه الاحزان والآلام والجرائم، دون ان تفعل فعلها في يقظة هذه الامة صاحبة الحق والأرض والجمهور والمظلومية الأسطورية.
كل الكلام لا ينفع ولا يشفع، فالمسرحية الحيّة ليست من صنع البشر، ولا بد لها من نهاية تناسب سلسلة «حبكاتها» المتناسلة.
كانت ليلة موت ملوّن، حارّة، غارقة بالكيمياء النفسية والعقلية، وبمعادلة مألوفة، من مدخلاتها: لهيب طقس مفاجىء، وموت وحوت وغبار وظلام، وجياع منكوبون عطاشى لدفقة من شعور البشر، يموتون غيلة وحقدا، ومخرجاتها ملاحم أسطورية من إيمان وكرامة وصبر ..
في ليلة من ليالي جمرة القيظ في آب اللهّاب، وزمن أثخنته الخيبات والقهر، ما أجمل نهايات الصبر.
عساها تمطر رحمة فتختفي ألوان الموت، وشظف المشاعر، وتؤوب الحشود لمستقر آمن.