2025-04-15     عدد زوار الموقع: 5862452

البوصلة في زمن الإعلام السائل

في زمن صار فيه الخيط الفاصل بين الحقيقة والوهم واهيا كضوء مرتعش في عاصفة، وبين الخبر والرأي شعرة تنقطع دون إنذار، يبدو الإعلام كالسفينة المترنحة وسط أمواج متلاطمة، بلا شراع يثبت اتجاهها، ولا بوصلة ترشدها. لم يعد السؤال: «كيف نصل إلى المعلومة؟» بل تحول إلى سؤال أكثر خطورة: «كيف نعرف أن ما وصلنا هو الحقيقة فعلا، لا ظلها أو صداها؟»
نفتح هواتفنا كل صباح، لنواجه طوفانا من الأخبار المتسارعة. بعضها مستعجل، بعضها صاخب، وبعضها مصمم ببراعة كي يخطف منا رد فعل قبل أن يمنحنا فرصة للتفكير. نمرر إصبعنا على الشاشة كما لو كنا نقلب أوراق واقع لا نستوعبه، نشارك الخبر دون تمحيص، ثم نواصل يومنا محملين بكم من الضجيج، لا ندري فيه أين تبدأ الحقيقة وأين ينتهي التهويل.
غدا الإعلام ساحة لحرب رمزية، تشن بأسلحة خفية: عناوين موجهة، صور مجتزأة، مقاطع منتقاة بعناية لتصنع واقعا افتراضيا أكثر تأثيرا من الواقع نفسه. الحقيقة لم تعد ضحية التعتيم، بل ضحية فائض الإنارة؛ إذ تدفن تحت طبقات كثيفة من المحتوى، حتى باتت أقرب إلى همسة وسط صخب لا يُحتمل.
ولكن، لنكن صرحاء مع أنفسنا: الخلل لا يكمن فقط في غرف التحرير، بل في عاداتنا نحن. نحن الذين نستهلك الخبر كما نستهلك مشهدا في مسلسل، نبحث عن الإثارة لا المعنى، عن الانفعال لا الفهم. لا نسأل: من يملك هذا المنبر؟ ولماذا يخبرنا بهذا الشكل؟ ما السياق وما الخلفية؟ أصبحنا جمهورا يسهل قيادته، لا لأننا سذج، بل لأننا مرهقون، وعاجزون عن التمييز في زمن السرعة.
في هذا المشهد المرتبك، لم يعد الإعلام مطالبا بمجرد نقل الحدث، بل أصبح ملزما بمهمة أكثر نبلا: إعادة ترتيب العالم لذهن المتلقي. إعلام يضع الأسئلة قبل الأجوبة، ويعيد سلطة الفهم إلى يد الجمهور لا إلى صانع المحتوى. إعلام لا يبيعنا الإثارة، بل يمنحنا أدوات التفكير.
 ضياع البوصلة الإعلامية ليس عرضا مهنيا، بل تجلٍّ لأزمة أعمق تمس وعينا الجمعي. إنها أزمة إدراك ومعالجة وفلترة، تحدد كيف نرى العالم، وكيف نقرأ الواقع. فإما أن ننهض إلى استرداد دورنا في الفهم والتمحيص، أو أن نستمر في الانجراف، نركض خلف موجات الخبر، دون أن نعلم إلى أين تمضي بنا أو ما الذي فقدناه في الطريق.



شارك الخبر

استطلاع الأراء
هل تؤيد رفع اسعار الدخان وفرض ضريبة ؟

11617 المؤيدين

11294 المعارضين

11287 المحايدين

محايد لا نعم