يوم توزيع «البُقَج» في المخيم!

تذكّر طفولته المسلوبة وسنوات عمره الأولى المصلوبة على خشب الرجاء بأن يكبر سريعًا. «غدًا يكبر ويعمل ويساعدني»، جملة أبيه التي خلع طفولته وارتداها. اضطر أن يكبر سريعًا. لم يشارك أترابه اللعب بالكرة في الحارة، وأيّة كرة! كانوا يسمّونها «طابة شرايط». والشرايط ما يتبقّى من القميص أو الفستان أو البنطلون، تلك التي كانت وكالة الغوث توزّعها على أهل المخيم ممّا يتصدّق به العالم عبر الوكالة الدولية كتعويض عن بلدهم وبيّاراتهم وبيوتهم و... بحرهم.
كان يوم توزيع «البُقَج» السنوي عيدًا في المخيم. يصطفّ اللاجئون منذ الصباح ليتسلّم كلّ ربّ عائلة بقجته ملفوفة بمعطف كبير، بداخلها «إنت وحظك»: كنزة صوف، فستان شتوي، بنطلون، ملابس أطفال، حذاء. يجري كلٌّ إلى خيمته ليفتح البقجة التي تفوح منها رائحة «الفونيك» المطهّر على بُعد أمتار، حتى يُخيّل إليك أنها أمطرت فونيك على كلّ المخيم.
تلتئم العائلة ويبدأ الأب بفرز «الهدية الأممية»: هذا الفستان لكِ يا فاطمة.
ـ لكنه «مشخلع» يا أبي، وأنا لا أرتدي إلا الكمّ الطويل، تقول فاطمة، والأب يدّعي أنه لم يسمع. ويُكمل: هذه الكندرة «الحذاء» لكِ يا أمينة.
ـ يا أبي، هذه كعب عالي، وأنا يا دوب ألبس شِبشب زحف.
أيضًا كأنّه لم يسمع. هذا الجاكيت لكَ يا حسن.
ـ لكنه...
لا يدعه يُكمل ويواصل الفرز: هذا روب صوف، ربما كانت صاحبته ثرية يا صبحيّة. إنه بلون بدلة عُرسنا، هل تذكرين تلك البدلة؟ تقول زوجته بخجل حميم.
ـ لكن كيف ألبس روبًا في خيمة يا محمد؟ عندما لبست بدلة عرسنا كان بيتنا يطلّ على البحر.
ـ لا تذكريني يا صبحيّة، لقد أغرقونا في الصحراء.
في الصباح، يبدو المخيم كحلقة سيرك: ألوان غير متناسقة، مقاسات متنافرة، طفل محشوّ في تبّان كقطعة حلوى ذائبة في ورقها، امرأة مكتنزة في فستان مغنيّة أوبرا، شاب في معطف امرأة، رجل مقهور يرتدي ما تيسّر. لكن الكلّ كان فرحًا. كيف لا، وقد قالوا لهم: لا تأخذوا شيئًا معكم. سنُعيدكم إلى بيوتكم خلال أسبوع. حملوا ما يسدّ حاجتهم لأسبوع: بابور، طنجرة، إبريق شاي، كُبّايات، ما عليهم من ملابس، وما نَتشَته الأمّ ممّا طالته يدها وهي تركض، فيما الزوج يصيح: يلّا يا مرة، كلّها كم يوم وراجعين.
سبع وسبعون سنة ولم «يرجعوا». كانوا يتسلّون بالحديث عن ذكريات البلاد: عن بحر يافا وجامع حسن بيك وسينما الحمرا، عن صيد السمك في نهر العوجا، عن بيّارات البرتقال الذي كان مجّانيًا للناس وعملةً صعبة من التصدير إلى أوروبا... عن و عن و عن!
بعد سبع وسبعين سنة، يُحرق الصهاينة خيامهم في غزّة، ومعها لحم أطفالهم. يُحاصرونهم، ويُجوّعونهم، ويقتلونهم. لا «مؤن» من وكالة الغوث، لا وكالة غوث بأمر من نتنياهو وعصابته، ولا من يُغيث.
في غزّة، محرقة، مقتلة هي الأبشع في التاريخ الحديث، وفيها شعب صامد على أرضه، ومقاوم يلحق بالدبابة حافيًا، يفتح برجها، ويُلقي على من فيها قنبلة تحرقهم وتُرسلهم إلى الجحيم... في غزّة شعب يُقتَل ولا يموت، وفينيق يحيا من الرماد.