الجبهة الداخلية وصراع الحواضن بلال حسن التل
القصف الهمجي الذي يمارسه العدو الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت وقرى جنوب لبنان، وإصراره على ترحيل الأهالي من هذه المناطق، هو عمل مقصود وله هدف استراتيجي، تماماً كما هو هدفه من تدمير غزة وتشريد أهلها. يسعى العدو الإسرائيلي إلى إضعاف المقاومة عبر إضعاف جبهتها الداخلية، ومن ثم كشف ظهرها تمهيداً لكسرها. فالعدو الإسرائيلي يقرأ التاريخ جيداً، وإن كان يحاول القفز على الكثير من حقائقه، فهو يعلم أن الدول والجيوش والمقاتلين غالباً ما يضعفون ويُهزمون عندما تضعف جبهتهم الداخلية ويُكشف ظهرهم.
من هذا الفهم للحقيقة، يمكننا أن نُطلق على الحرب الإجرامية التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر الماضي على غزة والجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت اسم “حرب الحواضن”، حيث يركز العدو على قصف المدنيين وقتلهم وترحيلهم لتحقيق هدف استراتيجي هو كشف ظهر المقاومين وكسره من خلال إضعاف وتدمير جبهتهم الداخلية، التي تُعد أقوى حصونهم وأهم مصادر قوتهم. هذه الجبهة الداخلية بناها المؤسسون الأوائل للمقاومة الإسلامية في غزة وجنوب لبنان.
من يقرأ تجربة المقاومة الإسلامية في غزة يلاحظ أنها قبل أن تطلق رصاصة واحدة على المحتل، ركزت على تربية جيل كامل، وتحصينه عقائدياً وثقافياً، وبناء روحه المعنوية. سعت المقاومة إلى بناء مجتمع يحس بكرامته وأهمية تماسكه، فسعت إلى تطهيره من العملاء والجواسيس، وعملت قدر المستطاع على توفير سبل العيش الكريم لمجتمعها. وبالرغم من ضيق ذات اليد، بنيت في غزة مدارس، ووصل الأمر إلى بناء جامعة، وكذلك مراكز صحية ومستشفيات وملاعب… والأهم من ذلك كله أن القادة والزعماء ظلوا يعيشون بين الناس ومعهم في المخيمات والأحياء الفقيرة، يتقاسمون معهم المعاناة ويحاولون حل مشاكلهم، وكانوا أول الشهداء في الاعتداءات الإسرائيلية. لذلك التف الناس حول المقاومة وضحوا وتحملوا من أجلها، لأنهم آمنوا بأنها منهم ولأجلهم.
وفي ظني أن تجربة قطاع غزة في بناء حاضنة المقاومة استفادت كثيراً من تجربة المقاومة في لبنان، وخاصة في جنوبه، منذ أن أطلقها الإمام موسى الصدر وسماها “حركة المحرومين” التي أصبحت فيما بعد “حركة أمل”. لكلا الاسمين دلالات واضحة ساهمت في تأسيس حاضنة المقاومة التي أكملت بنائها المقاومة الإسلامية، حيث وفرت لأهل الجنوب وسكان الضاحية الجنوبية كل سبل ومرافق العيش الكريم، بعد أن بنت روحهم المعنوية وحصنتهم ثقافياً وعقائدياً. لذلك كان من الطبيعي أن يلتفوا حولها. ولهذا السبب يسعى العدو الإسرائيلي إلى كسر المقاومة بإضعاف جبهتها الداخلية من خلال قتل المدنيين وتشريدهم عبر القصف الهمجي، في حربه على الحواضن في غزة ولبنان.
لقد فات العدو الإسرائيلي أن استهدافه للمدنيين وقتلهم وجرحهم وتشريدهم يرفع من منسوب الحقد عليه في صدور أبناء مجتمعهم، ويجعل أفراد هذا المجتمع يعيشون ثأراً شخصياً مع عدوهم. كما نسي العدو الإسرائيلي أن حقائق التاريخ تؤكد أن إرادة الشعوب المدافعة عن كرامتها وحقوقها هي التي تنتصر في نهاية الحرب.