التباكي على الفلسطينيين ماهر أبو طير
يبدو السؤال منطقيا عن سبب عدم تركيز الإعلام العربي والغربي على خسائر إسرائيل على مستويات متعددة في هذه الحرب، والتركيز فقط على الخسائر الفلسطينية في غزة.
بعيدا عن الاتهام المسبق، فإن التركيز على خسائر الفلسطينيين من حيث عدد الشهداء والجرحى والنازحين والأيتام والأرامل وعدد البيوت المهدومة وخسائر التعليم والصحة وخراب البنى التحتية وأضرار اقتصاد غزة، يراد منه أحيانا القول الضمني أن عدوك أقوى منك، وأن الأَولى عدم محاربته، كونه سينتقم انتقاما بشعا، وسيدفع الأبرياء الثمن، والقصد النهائي هنا التسبب بالندم عند وقوفك في وجه إسرائيل، بل وبث الخوف والذعر بين بقية الفلسطينيين والعرب في هذه المنطقة، من نار إسرائيل، وقوة إسرائيل، وانتقام إسرائيل إذا قررت الانتقام من أحد.
هذا يعني أن خسائر الفلسطينيين على صحتها يتم توظيفها كوسيلة إعلامية أحيانا بهدف غير التباكي على الفلسطينيين، بل تصنيع صورة تستهدف الوعي الجمعي.
بالمقابل فإن الكلام عن خسائر إسرائيل يأتي إما بشكل مخفف وغير دقيق، وأحيانا يتم تجاوزه كليا، بل ويخرج لك من يقول إن إسرائيل سيتم تعويضها ماليا عن خسائرها، وإن خسائرها قليلة مقارنة بالفلسطينيين، ويمر البعض سريعا على خسائر بعض القطاعات مثل السياحة والتكنولوجيا فيما خسائر إسرائيل تعد أكبر وجوهرية وخطيرة، على سمعة إسرائيل أولا، التي صوت العالم ضدها فعليا في الأمم المتحدة لصالح قبول عضوية دولة فلسطين، قبل أيام، وعلى صعيد الخسائر العسكرية التي يتم إخفاء أغلبها، والخسائر البشرية في الميدان بين الجنود، وعلى صعيد القلق الشديد من المستقبل، وتوقف موجات الاستيطان والقدوم إلى فلسطين، بل ومغادرة الإسرائيليين لفلسطين، إضافة إلى خسائر الاقتصاد اليومية، والإجمالية، وتراجع النمو، وغياب اليقين حول المستقبل، وتشظي الوحدة الداخلية الإسرائيلية ما بين علمانيين ومتدينين، وما بين من يحكمون ويعارضون، وغير ذلك من خسائر تشهدها إسرائيل لأول مرة منذ تأسيسها، مرورا بمظاهرات ذوي الأسرى.
ما يراد قوله إن هناك عبثا إعلاميا عربيا وغربيا في بعض الحالات، من أجل تصنيع صورة مختلفة، تتخفى وراء التباكي على الفلسطينيين، الذين يتم ذبحهم أصلا منذ ثمانية عقود، وليس في هذه الحرب فقط، والذين يتم تهديدهم بالمصير الأسود أساسا خلال السنوات المقبلة، وهذا ليس جديدا، وهذا التباكي على حالة الفلسطينيين الحالية يراد منه تصنيع مشاعر الندم، وتكريس الشعور بالهزيمة والقهر، هذا على الرغم من أن المشروع الإسرائيلي لم يتوقف أصلا عن استهدافهم، ومخططاتها ممتدة إلى الضفة الغربية والقدس، وربما الجديد حقا، ليس خسائر الفلسطينيين، بل خسائر الإسرائيليين الذين يتعرضون للمرة الأولى لكل هذه الكلف، على مستويات داخلية وفي الإقليم والعالم، وهي خسائر للنموذج الذي يتم بيعه للرأي العام من حيث القوة والصلابة والتطور العلمي والاستقرار وتمثيل مصالح الغرب كقاعدة متقدمة في هذه المنطقة، وكلف التراجع في هذه السمات أخطر بكثير من كلف ما تعرض له الفلسطينيون هذه المرة، لأننا كلنا نعرف أن سفك الدم ليس جديدا بين الفلسطينيين، وهناك آلاف الملاحم والمجازر الصغيرة والكبيرة التي رأيناها منذ تأسيس إسرائيل وما قبل التأسيس بنية التوطئة للظهور.
هذا يعني أن هناك تلاعبا بالوعي العام، بطرق مختلفة، بالكاد يفكها الإعلاميون المتخصصون، مما يدعونا إلى دعوة البعض إلى التوازن على الأقل، إن لم يكن تعظيم خسائر إسرائيل كما هو الواقع الذي يحاول البعض تجاوزه من خلال أخذنا إلى اتجاهات محددة بالكلمة والصورة، وهي اتجاهات متعمدة لغايات ليست بريئة.