سياسة الفرص الضائعة
فراس النعسان
كما تضيع الفرص في المباريات، تضيع في السياسة أيضاً. الكرة التي تمرّ أمام المرمى ولا تجد قدماً تضعها في الشباك، تشبه لحظة تاريخية تمرّ أمام دولة أو قيادة أو تحالف، من دون أن يملك أحد الشجاعة أو البصيرة لالتقاطها. في الحالتين، لا يكفي أن تكون الفرصة موجودة؛ المهم أن يكون من يراها، ويعرف وزنها، ويتحمّل مسؤولية تحويلها إلى هدف.
في كرة القدم، لا تُقاس المباريات بعدد الاستحواذ، بل بعدد الأهداف. وفي السياسة، لا تُقاس المراحل بعدد الخطب والبيانات والاجتماعات، بل بما تحققه فعلياً من أمن، واستقرار، ونمو، وجودة حياة للناس. كثير من الدول لعبت شوطاً أول ممتازاً: موارد متاحة، موقع جغرافي استثنائي، علاقات دولية واعدة، لكن الشوط الثاني ضاع في التردد، وسوء التقدير، والخوف من المخاطرة.
الفرصة السياسية غالباً ما تكون لحظة قصيرة العمر. نافذة تُفتح بسبب تحوّل إقليمي، أو تغير في موازين القوى، أو توافق دولي نادر. من لا يمرّ من خلالها في الوقت المناسب، يجدها قد أُغلقت، وربما فُتحت لغيره. التاريخ لا ينتظر المترددين، كما أن المدرجات لا تصفق للاعب أضاع انفراداً سهلاً بحجة أن الدفاع كان منظماً.
إدارة الدول تشبه إلى حدّ بعيد إدارة فريق في بطولة طويلة. المدرب الذي يغيّر خطته كل عشر دقائق، أو يخاف من إشراك لاعب موهوب لأنه صغير السن، غالباً ما يخسر. وكذلك الدولة التي تخشى الإصلاح، أو تؤجل القرارات الصعبة، أو تكتفي بإدارة الأزمات بدل حلّها، تكتشف متأخرة أن الزمن لم يكن في صالحها.
في العلاقات الدولية، تضيع الفرص حين تتحوّل الدبلوماسية إلى ردّ فعل لا فعل. حين تنتظر الدول ما يقرره الآخرون، بدلاً من أن تبادر، وتبني تحالفاتها، وتحدّد مصالحها بوضوح. العالم لا يكافئ الحياد الكسول، بل يحترم المواقف الواضحة، حتى لو كانت مكلفة في البداية. تماماً كما يحترم الجمهور اللاعب الذي يسدد، حتى لو أخطأ، أكثر من الذي تراجع خوفاً من الخطأ.
أما الشعوب، فهي الخاسر الأكبر حين تضيع الفرص. كل قرار مؤجّل، وكل إصلاح مؤجل، وكل تسوية لم تُنجز في وقتها، تُترجم في حياة الناس بطالة أطول، وخدمات أضعف، ومستقبل أكثر ضبابية. جودة الحياة ليست شعاراً، بل نتيجة مباشرة لقدرة الدولة على التقاط الفرص، والاستثمار فيها، وتحويل السياسة من صراع على السلطة إلى أداة لخدمة الإنسان.
الفرق بين الدول الناجحة وغيرها، ليس في غياب الأزمات، بل في طريقة التعامل معها. هناك من يرى الأزمة تهديداً فقط، وهناك من يراها فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، وتصحيح المسار، وبناء عقد جديد مع المجتمع. كما في كرة القدم، بعض الفرق تحتاج إلى هدف واحد ليغيّر كل شيء: المعنويات، والثقة، والإيقاع.
في النهاية، السياسة ليست لعبة، لكنها تشبه المباريات في شيء أساسي: النتيجة هي ما يبقى في الذاكرة. الفرص الضائعة تُنسى سريعاً عند أصحابها، لكنها تتحوّل إلى أهداف في مرمى الآخرين. وبين دولة تسجّل، وأخرى تندم، تقف شعوب كاملة بانتظار من يفهم أن اللحظة، إن لم تُلتقط الآن، قد لا تعود أبداً.








