2025-10-13     عدد زوار الموقع: 6122362

الخزوز تكتب: بين التقدير والتنفيذ ... قراءة رقابية في الحسابات الختامية لعام 2024

بقلم: النائب رند الخزوز
عضو اللجنة المالية في مجلس النواب الأردني

في خضم الحديث عن كفاءة الإنفاق العام وشفافية الأرقام الحكومية تأتي الحسابات الختامية لعام 2024 لتقدّم نفسها كوثيقة رقابية واقعية لا تقل أهمية عن قانون الموازنة العامة بل تشكّل المرآة الصادقة لما تحقق فعليًا من الوعود والخطط الحكومية على أرض الواقع ومن موقعي كنائب وعضو في اللجنة المالية النيابية أجد أن قراءة الحسابات الختامية ليست تمرينًا محاسبيًا أو إجراءً تقنيًا بل فعلًا رقابيًا وسياسيًا بامتياز يهدف إلى تحويل الأرقام إلى نتائج والإنفاق إلى أثر ملموس والبيانات إلى اختبار حقيقي للالتزام بما نتفق عليه ما يسمح بالانتقال من استعراض الموازنات إلى تقييم أثرها على حياة الناس فالمساءلة لا تُبنى على النوايا بل على الأرقام.
ولعلّ الحسابات الختامية إذا ما قُرئت بعين ناقدة ومسؤولة يمكن أن تكون منطلقًا لإصلاح مالي واقتصادي يعيد الثقة بين المواطن والحكومة ويكرّس الدور الرقابي لمجلس النواب في حماية المال العام وتجويد توظيفه بما يحقق العائد التنموي المنشود فهي ليست مجرد ملحق مالي للموازنة بل أداة رقابية جوهرية تُظهر بوضوح مدى التزام الحكومة بما أقرّه مجلس الأمة من مخصصات ونفقات ومدى تطابق التنفيذ مع التخطيط وهي أيضًا وسيلة تمكين لديوان المحاسبة للتحقق من كفاءة إدارة المال العام وضمان الالتزام بالقوانين والأنظمة المالية وكلما كانت هذه الحسابات أكثر دقة ووضوحًا ازدادت فعالية الدور الرقابي وارتفعت جودة التقارير المالية التي تُرفع إلى مجلس النواب مما يعزز الثقة المتبادلة بين الحكومة والنواب والمواطنين ويكرّس قيم الشفافية والمساءلة كركائز للحوكمة الرشيدة.
أظهرت الحسابات الختامية لعام 2024 أن الإيرادات العامة الفعلية انخفضت عن الإيرادات المقدّرة بمبلغ 863 مليون دينار حيث بلغت 9.439 مليار دينار لتشكّل نسبة 91.6٪ من الرقم التقديري البالغ 10.302 مليار دينار فيما بلغت الإيرادات المحلية الفعلية 8.734 مليار دينار بنسبة 92.5٪ والمنح الخارجية 705 ملايين دينار بنسبة 7.5٪ هذا التراجع وإن عُزي بصورة رئيسة إلى انخفاض الإيرادات الضريبية نتيجة تباطؤ النشاط الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية إلا أنه يسلط الضوء على فجوة التقدير التي يفترض أن تكون مبنية على توقعات دقيقة لا على قراءات متفائلة كما يبرز الحاجة إلى مراجعة السياسات المالية المعتمدة فالتراجع في الإيرادات لا يعني اللجوء إلى ضرائب جديدة تُرهق الاقتصاد والمواطنين بل إلى رفع كفاءة التحصيل الضريبي وتكريس العدالة الضريبية ومكافحة التهرّب المالي والأهم أن ينسجم الإنفاق ولا سيما الجاري منه مع الإيرادات الفعلية لا التقديرية فالإصلاح المالي لا يقوم على الجباية وحدها بل على تحفيز الاقتصاد المنتج وتوسيع القاعدة الضريبية بما يضمن توازن المالية العامة وواقعية تقديراتها انسجامًا مع الحالة الاقتصادية والمعيشية السائدة.
أما على صعيد الإنفاق العام فقد بلغت النفقات العامة المقدّرة لعام 2024 نحو 12.371 مليار دينار في حين بلغ الإنفاق الفعلي 11.537 مليار دينار بانخفاض قدره 834 مليون دينار وبنسبة تنفيذ بلغت 93.3٪ وشكّلت النفقات الجارية نحو 89.9٪ من إجمالي الإنفاق العام في حين بلغت النفقات الرأسمالية الفعلية 1.169 مليار دينار مقابل مقدّر بلغ 1.730 مليار دينار بانخفاض قدره 561 مليون دينار وبنسبة تنفيذ بلغت 67.6٪ فقط أي ما نسبته 11.3٪ من حجم الإنفاق الجاري وهي نسبة متواضعة لا تتناسب مع أهداف التحفيز الاقتصادي وزيادة النمو.
ومن المرجّح أن جزءًا معتبرًا من هذا التراجع يعود إلى تحويل مخصصات رأسمالية إلى النفقات الجارية في تكرارٍ لنمط إداري ومالي ظهر في السنوات السابقة ما يشير إلى ميلٍ هيكلي نحو الإنفاق التشغيلي على حساب الإنفاق التنموي المنتج الأمر الذي يضعف الأثر الاقتصادي للموازنة ويحدّ من انعكاسها على النمو وفرص العمل وجودة الخدمات العامة.
وبناءً على هذه المعطيات بلغ العجز المالي الفعلي قبل المنح لعام 2024 نحو 2.803 مليار دينار مقارنةً بعجز مقدّر في قانون الموازنة بلغ 2.774 مليار دينار أي بزيادة قدرها 29 مليون دينار وبنسبة ارتفاع تقارب 1٪ ويعكس هذا العجز المستوى الحقيقي لاعتماد المالية العامة على الإيرادات المحلية في تغطية النفقات إذ تُظهر الأرقام أن نسبة الاعتماد على الذات بلغت نحو 84.2٪ فقط واذا ما اضفنا المنح الى الايرادات المحلية فان النسبة ترتفع الى 91.0% ما يعني ان حوالي .09% من النفقات الجارية و100% من النفقات الراسمالية يمول بالقروض والمساعدات الخارجية ويُعزى هذا الارتفاع في العجز قبل المنح إلى تراجع الإيرادات المحلية بمعدل 8.8٪ تقريبًا مقابل انخفاض في النفقات العامة بنسبة 6.7٪ ما يؤكد أن وتيرة تراجع الإيرادات كانت اعلى من وتيرة ضبط الإنفاق كما يُشير ذلك إلى أن الحكومة إمّا تميل إلى المحافظة على مستوى إنفاق مرتفع رغم تباطؤ الإيرادات أو تبالغ في تقدير الإيرادات عند إعداد الموازنة لتبرير زيادة الإنفاق أمام مجلس النواب وهي ممارسات تضعف الثقة بالأرقام الرسمية وتتناقض مع متطلبات الشفافية والانضباط المالي وتؤكد الحاجة إلى تعزيز كفاءة التحصيل الضريبي وتوسيع القاعدة الإنتاجية وتقليص الاعتماد على المنح الخارجية لضمان تحقيق الاستدامة المالية واستقلالية القرار الاقتصادي.
أما الحسابات الختامية للوحدات الحكومية لعام 2024 فقد أظهرت أن إجمالي الإيرادات الفعلية بلغ 797.8 مليون دينار مقابل 852.3 مليون دينار مقدّر بانخفاض قدره نحو 54.5 مليون دينار وبنسبة تنفيذ بلغت 93.6٪ في المقابل بلغت النفقات الفعلية 1.385 مليار دينار مقابل 1.661 مليار دينار مقدّر بانخفاض قدره نحو 276 مليون دينار وبنسبة تنفيذ بلغت 83.4٪ وتوزعت النفقات بين 967.9 مليون دينار نفقات جارية و417.8 مليون دينار نفقات رأسمالية ما يعني أن الإنفاق الرأسمالي لم يتجاوز 25٪ من إجمالي النفقات وهي نسبة محدودة لا تحقق الأثر التنموي المطلوب ولا تتماشى مع أهداف الإصلاح الاقتصادي وتحفيز النمو وقد سجّلت الوحدات الحكومية عجزًا فعليًا قدره نحو 587.8 مليون دينار وهو ما يعكس استمرار الضغط المالي وضعف الاعتماد على التمويل الذاتي لدى عدد من الوحدات ذات الطابع الخدمي والإنتاجي وتؤكد هذه النتائج الحاجة إلى إعادة هيكلة الوحدات الحكومية ورفع كفاءتها التشغيلية والإدارية ضمن إطار الإصلاح المالي والإداري الشامل بما في ذلك تقييم جدوى استمرار بعضها ودمج المتشابه منها لضمان الاستخدام الأمثل للموارد العامة وتقليص العجز الكلي في المالية العامة للدولة.
من خلال هذه القراءة يتضح أن التحدي المالي في الأردن لا يكمن في حجم الموازنة بل في كفاءة إدارتها وتوزيعها فالعجز لا يُعالج بزيادة الضرائب بل بتوسيع الاقتصاد ورفع نسب النمو وتحسين كفاءة التحصيل وضبط الإنفاق وإعادة هيكلة المؤسسات والوحدات الحكومية لضمان كفاءتها وجدواها الاقتصادية كما أن السياسة المالية يجب أن تتجه نحو تحفيز النمو الاقتصادي بدلًا من هندسة الأرقام عبر زيادة حقيقية في الإنفاق الرأسمالي الموجّه للبنية التحتية والتعليم والصحة والمشاريع الإنتاجية التي توسّع قاعدة التشغيل وتخلق فرص عمل حقيقية.
إن الحسابات الختامية ليست نهاية سنة مالية بل بداية لمسار جديد من التقييم والمساءلة وهي الترجمة العملية لمبدأ الرقابة البرلمانية التي تعزز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وتدفع نحو تطوير الأداء المالي والإداري ضمن رؤية التحديث الاقتصادي فنجاح السياسة المالية لا يُقاس بانخفاض العجز أو ارتفاع الإيرادات فحسب بل بمدى انعكاسها على حياة المواطن وتحسن الخدمات واستقرار المعيشة وعليه تبقى الحسابات الختامية مرآةً للواقع المالي كما هو لا وثيقة رقمية جامدة وإذا ما أُحسن التعامل مع نتائجها بمسؤولية يمكن أن تكون منطلقًا لإصلاح مالي حقيقي يجعل من الموازنة أداةً للتنمية لا مجرد عرضٍ للأرقام.



شارك الخبر

استطلاع الأراء
هل تؤيد رفع اسعار الدخان وفرض ضريبة ؟

24193 المؤيدين

24046 المعارضين

23998 المحايدين

محايد لا نعم