كتب بلا عاطفة
اسماعيل الشريف
الذكاء الاصطناعي هو أداة قوية يمكن استخدامها للخير أو الشر، من المهم أن نكون مستعدين لعواقب الذكاء الاصطناعي واتخاذ القرارات الصحيحة بشأن كيفية استخدامه- كارل ساغان، عالم فلك أمريكي.
منذ سنوات، راودتني رغبة عميقة في مشاركة القراء الأعزاء ثمار رحلتي مع عدد من الكتب الأجنبية الثرية التي كنت منكبًا على قراءتها. فشرعت في ترجمتها إلى اللغة العربية واختصرتها بأسلوبٍ خاص، ونشرت معظمها على شكل حلقات متتابعة في صحيفة «الدستور» الموقرة.
وبعد أن جمعت ما يصلح للنشر من تلك الترجمات في مؤلَّف واحد، أصدرته بنسخة ورقية، ثم تعرّفت على منصة «كيندل « التي بدت لي واحدة من آخر معاقل حرية التعبير في عالمنا المعاصر. تقوم فلسفة هذه المنصة على فكرة بالغة البساطة والجمال: تكتب كتابك، وتصمّمه بنفسك أو من خلال الأدوات التي توفرها المنصة، ثم تنشره إلكترونيًّا عبر موقع كيندل، لتعقد بعد ذلك اتفاقية مع شركة أمازون تتقاسمان بموجبها عائدات بيع النسخة الإلكترونية، حيث تُحوَّل حصتك من الأرباح إلى حسابك في نهاية كل شهر.
كانت تجربة ممتعة حقًّا؛ فعندما بدأت الإيرادات - رغم تواضعها - تتدفق إلى حسابي المصرفي، أُعجبت بالفكرة أيما إعجاب. لأول مرة شعرت أن ما أكتبه لا يثمر فكرًا فحسب، بل يدرّ دخلًا ماديًّا حقيقيًّا أيضًا. عندئذٍ شرعت في جمع مقالاتي، المنشورة منها وغير المنشورة، في كتب إلكترونية أصدرتها عبر منصة كيندل.
كانت الأمور تسير بسلاسة ويسر، إذ تصلني كل شهر بضعة دولارات زهيدة لا تُذكر، ومع ذلك كنت أقدّم نفسي بفخر واعتزاز على أنني كاتب له مؤلفات منشورة ومتداولة. وكنت أقول لزوجتي وأبنائي - على سبيل المزاح - إنني أُنفِق عليهم من دخلي الأدبي، من عائدات الكتابة التي بالكاد تكفي لشراء فنجان قهوة واحد.
بدأت القصة بهدوءٍ غامض، كنسيمٍ تسلّل في جنح الظلام، ثم ما لبث أن تحوّل إلى عاصفة؛ إذ راحت آلاف الكتب الجديدة تغزو منصة كيندل. لاحظت آنذاك أن دولاراتي الزهيدة أخذت في التناقص التدريجي شيئًا فشيئًا، حتى لم يعد يصل إلى حسابي سوى «سنتات» قليلة متناثرة. ولم تمضِ سوى أسابيع معدودة حتى اجتاحت المنصة موجة عارمة من الكتب بشتى أصنافها: روايات، وكتب أطفال، ومؤلفات سياسية. كتب غريبة الأطوار، مكرّرة المحتوى، جميلة المظهر، سطحية المضمون، ركيكة الأسلوب، تفتقر إلى الروح والحياة. عندئذٍ علت صرخات الكتّاب في منتدى كيندل: «نحن نغرق في طوفان مخلّفات الذكاء الاصطناعي!»
لم يكن الأمر ليثير قلق إدارة كيندل؛ إذ تضاعف عدد الكتب المنشورة أضعافًا مضاعفة، وإيرادات المنصة لم تشهد أي تراجع، بل ربما شهدت ارتفاعًا ملحوظًا. إلا أن ازدحام الساحة الأدبية بهذا الكمّ الهائل من اللاعبين الجدد أدى إلى تقلّص حصة كل كاتب بشكل تدريجي ومستمر. أما دور النشر التقليدية، فقد رأت في هذا الزحام الخانق فرصتها الذهبية للاستفادة؛ فمع تدفق مئات الكتّاب الجدد الراغبين في النشر، بات لزامًا على الكاتب أن يتحمّل بنفسه كافة تكاليف النشر إن أراد أن يرى كتابه منشورًا.
لديّ صديق يكتب قصصًا مصوّرة للأطفال، وهي مصدر رزقه الوحيد، وكانت تُعدّ من أكثر أنواع الكتب الإلكترونية رواجًا وانتشارًا. يستيقظ كل فجر، يؤدي صلواته، ثم يجلس خلف شاشة حاسوبه محاطًا بعشرات فناجين القهوة التي بردت. ينجز قصة تلو الأخرى، فيرسلها إلى ناشره، ثم يرفع نسخة منها على منصات النشر الإلكتروني المختلفة. قال لي ذات يوم بنبرة يشوبها الأسى والمرارة:
«لم يعد الناشر يدفع شيئًا البتّة؛ فالعشرات، بل المئات، يرسلون قصصًا أنتجها الذكاء الاصطناعي في دقائق معدودة، وكل ما يطمحون إليه هو مجرد الشهرة والظهور.» ثم أضاف بابتسامة مفعمة بالمرارة: «حتى العائد من النشر الإلكتروني لم يعُد يكفي لشراء فنجان قهوة واحد، بعدما أغرق الذكاء الاصطناعي السوق بطوفان جارف من الكتب الباهتة عديمة القيمة».
والأخطر من ذلك كله، حين يُنتِج الذكاء الاصطناعي كتبًا سياسية أو مقالات رأي تُنشر في الصحف اليومية؛ إذ يُصدر «الكاتب» أمرًا إلى الذكاء الاصطناعي محددًا فيه الفكرة المطلوبة، والنبرة المرغوبة، وبعض العبارات ذات الطابع الأخلاقي، ثم يترك للذكاء الاصطناعي مهمة إكمال الباقي. تُنشر بعدها المقالة أو الكتاب، ويصعب على القارئ العادي أن يُميّز كونها من إنتاج الذكاء الاصطناعي وليست من صنع عقل بشري. وهكذا، بين عشية وضحاها، يصبح صاحبها كاتبًا مشهورًا رغم أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا في حياته.
تكمن الخطورة الحقيقية في أن جميع وجهات النظر والآراء المطروحة باتت تُصاغ وتُولَد من الذكاء الاصطناعي، فهو الذي أصبح يفكّر نيابةً عن كاتبها المفترض، ويعرض وجهة النظر التي برمجها المطوّر، وفقًا للسياسات والتوجهات التي رسمتها الشركة المالكة له.
وبسبب هذا الكمّ الهائل من الكتب والمقالات المُولَّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، أصبحت الكتابة كما يُقال: «لا تُطعِم خبزًا»، فبدأ العديد من الكتّاب الحقيقيين - أصحاب العقول المبدعة والأقلام النيّرة - يتركون مهنتهم ويهجرون ميدان الكتابة، تاركين الساحة للكتّاب الجدد الذين لا يريدون سوى أمر واحد: أن يُشار إليهم على أنهم كتّاب!
أعتقد أن الصحف ودور النشر، بل وحتى الدولة الأردنية، تقف أمام تحدٍّ واختبارٍ أخلاقي حقيقي، يتمثل في ضرورة دعم الفكر الحقيقي والإبداع البشري الأصيل، ولا تترك الساحة للنصوص المصنّعة الخالية من الإحساس التي تؤثر بالرأي العام وتقوده كما يريدها مبرمجها، فالأمم لا تتقدم إلا بالفكر الحقيقي الخلّاق والعقول المفكّرة!








