الأردن يطوي ملف التوطين والوطن البديل فهد الخيطان

ما كان محل تساؤل عند بعضنا أو شك عند فئة من السياسيين، أو قلق عام من منطلق الحرص الوطني، حول مدى صلابة الموقف الرسمي حيال قضية الترانسفير والتوطين، أصبح خلف ظهورنا على ما أعتقد.
بعد السابع من أكتوبر، ترددت في أوساط الدوائر الأميركية فكرة نقل سكان غزة إلى مصر ليتسنى لإسرائيل إنجاز المهمة بأقل قدر من الخسائر البشرية. حينها وقف الأردن بصلابة إلى جانب مصر رفضا للمشروع. وبالفعل لم يعد أحد يذكره من بعد.
لم يكن في الحسبان أن يعود طرح المشروع بقوة واندفاع من جانب إدارة أميركية إلا عند مجيء ترامب. وهذه المرة كان الأردن في قلب العاصفة مع مصر، بعد أن وقع اختيار الرئيس الأميركي على البلدين كملاذ طويل الأمد لسكان قطاع غزة.
كنا أمام مواجهة من العيار الثقيل؛ ليس مع إسرائيل إنما مع رئيس أميركي مندفع لا يقيم وزنا لمصالح الحلفاء. وشكل هذا التحدي اختبارا حاسما لإرادة الدولة الأردنية على كل المستويات، وأمام جمهور واسع يمتد على ساحة العالم كله.
اشتغلت ماكينات سياسية وإقليمية معادية للأردن على زرع الشك بقلوب الأردنيين، وحاولت تأليبهم على دولتهم، وتشكيكهم بموقفها. قبل جولة واشنطن الحاسمة، كانت المواقف الأردنية الرافضة تصدر تباعا، على لسان كبار المسؤولين، ثم كانت زيارة الملك عبدالله الثاني لأميركا هي الجولة التي حسمت الموقف الأردني. فلم يعد إزاء هذا الموقف من فرصة أمام المشككين لزرع الفتنة بين الأردنيين وقيادتهم.
زيارة واشنطن كانت تمرينا وطنيا بالذخيرة الحية، أغلق الباب الأردني الكبير في وجه كل المحاولات والضغوط لثني الأردن عن موقفه الصلب في رفض التهجير والتوطين.
منذ عقود طويلة لم يواجه الأردن اختبارا صعبا كالذي واجهناه مؤخرا، خاصة مع وجود إدارة أميركية بالمواصفات الحالية.
قيمة الموقف الأردني هذا لا تكمن في أثره الكبير والإيجابي على علاقة الدولة بالقوى الاجتماعية الأردنية، إنما في كونه رسالة صارمة لكل من يهمه الأمر بأن ملف التوطين هو بالفعل خط وطني أحمر تهون دونه المساعدات والتحالفات والمصالح مهما كبرت.
وتمرين غزة لا تقتصر فوائده على لمّ الصف الوطني والوحدة حول موقف واحد؛ رسمي وشعبي، بل في توظيف دروسه لبناء إستراتيجية متماسكة لمواجهة شبح التهجير من الضفة الغربية.
أصبحت لدينا أردنيين وفلسطينيين سردية واحدة وظاهرة عنوانها الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين. وخيار وطني موحد هدفه تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، وصيانة الوطن الأردني الواحد؛ دولة وهوية لذاتها وبذاتها، لا مشروعا أو خزانا على ذمة التهجير والتوطين لحل مشكلة إسرائيل على حساب الشعبين الشقيقين.
ستكون معركتنا مع محاولات التهجير من الضفة الغربية أسهل بعد أن واجهنا كشعبين مؤامرة التهجير من غزة. لن نحتاج لبناء سردية جديدة أو صياغة موقف، فما قلناه بشأن غزة ينطبق على الضفة الغربية.
هذا الكابوس الذي خيّم على حياتنا السياسية الأردنية، وأقلق هويتنا ووحدتنا الوطنية، صحونا منه، واختبرنا المواجهة العملية معه بنجاح.
لن يجرؤ طرف دولي بعد اليوم أن يفاتحنا بموضوع التهجير، أو يمتحن إرادتنا. صار واضحا للجميع أن الأردن قيادة وشعبا على استعداد أن يذهبوا أبعد مما يتصور كثيرون، دفاعا عن كيانهم السياسي وهويتهم الوطنية. في الغرف المغلقة، طالما قالها كبار المسؤولين، كل شيء مطروح على الطاولة؛ المعاهدة والسلام والمساعدات، عندما يتعلق الأمر بمصالح الأردن العليا.
في المواجهة التي شهدتها العاصمة واشنطن، ظهر الملك عبدالله الثاني بحق المواطن الأردني رقم واحد بامتياز.