الدولة الأردنية ومعركة الرواية الرسمية
نعم، يواجه الأردن مرحلة صعبة نتيجة توجهات دونالد ترامب بخصوص تهجير الفلسطينيين. نعم، لدينا موقف رسمي رافض لما يريده الرئيس الأمريكي، ولكن علينا أن ندرك أن الأمور ليست بهذه البساطة، فهي معقدة ومتشابكة إلى درجة تجعلها أزمة حقيقية يجب أن نعترف بها وبِتداعياتها.
أولًا، يجب أن ندرك أن ما نسمعه عن المواقف العربية لا يعكس بالضرورة واقع الحال، فالمنطقة العربية منقسمة، فمن جهة هناك دول ترى في خطة ترامب لترحيل الفلسطينيين تهديداً وجودياً لها، بينما ترى دول أخرى في كل ما يجري مجرد ملف جديد من ملفات المنطقة، وهذا الوضع يعكس واقعاً يزيد الأزمة تعقيداً، فالتعويل على موقف عربي موحد ضربٌ من الخيال.
ثانياً، يجب أن نفهم أن منطقتنا تعيش مرحلة «اختطاف الرأي العام»، وأن الصراع اليوم ليس بين روايتين فحسب، بل بين شبكة معقدة من المصالح والتحالفات. كل طرف يحاول، بكافة أدواته الإعلامية المباشرة وغير المباشرة، النظيف منها والقذر، التأثير في توجهات الرأي العام بما يخدم مصالحه وتوجهاته. لذلك، فإن رفض خطة ترامب ليس شأناً من الممكن حشد الرأي العام العربي خلفه.
ثالثاً، لا بد لنا من أن نتذكر حجم التشويه والتزييف الذي لحق بالموقف الأردني تجاه القضية الفلسطينية، على مدى العقود الماضية وحتى اليوم، إلى الدرجة التي يرى فيها البعض، أن كل ما يجري في فلسطين هو نتاج المواقف الأردنية، رغم أن الأردن هو من أكثر المتضررين على كافة الأصعدة نتيجة تبنيه الكامل للقضية الفلسطينية.
رابعاً، من المهم أن نعي أن هناك أزمة ثقة متغلغلة منذ سنوات طويلة في مجتمعنا، فالعديد من الناس أصبحوا أكثر ميلاً لتصديق الروايات القادمة من مصادر إعلامية خارجية أو التي تروجها جهات ذات أجندات خاصة، ومن لا يرى ذلك، لديه خلل واضح في رؤيته.
في ظل هذه المعطيات، تبرز أهمية الرواية الرسمية، ويجب ألا نترك المجال مفتوحاً أمام التأويلات والاختراقات الداخلية والخارجية، وفي هذه المرحلة، لا يمكن التعامل مع الإعلام كأداة نشر فقط وترك الساحة «لكل من هب ودب»، فأكثر ما نحتاجه اليوم هو تمتين الجبهة الداخلية، فالمرحلة تحمل معها تداعيات عميقة قد تعيد رسم خارطة المنطقة برمتها.
الرواية الرسمية اليوم تواجه تحدياً غير مسبوق، ولا بد من تحديث استراتيجيات التواصل الرسمي لتكون أكثر شفافية وتفاعلاً، مع ظهور مكثف لكافة المسؤولين، إذ إن غياب الخطاب الرسمي الواضح يفتح الباب أمام تأويلات لا تصب في مصلحة الدولة والأمن الوطني.
خطورة الوضع الحالي تتطلب استجابة إعلامية استراتيجية متكاملة، فاختزال مجهودنا الإعلامي في شخص وزير الخارجية لا يمكن أن يكون بديلاً، فالحاجة ماسة في هذه المرحلة إلى خلوة رسمية تضم كافة مسؤولي الصف الأول والثاني، ومديري المؤسسات الإعلامية، والمؤثرين الحقيقيين في الرأي العام لوضع سردية ذات رسائل موحدة لمخاطبة الناس.
كما يجب توجيه الجميع للاشتباك الإيجابي مع الشارع عبر اللقاءات المباشرة، وتوظيف وسائل الإعلام الاجتماعي لتقديم هذه الرواية بطرق تتجاوز الخطاب التقليدي، لضمان أن يكون لدى المجتمع فهم صحيح للأحداث بعيداً عن التشويه والتضليل، وفي مثل هذه المرحلة الحساسة، لا يصح أن تبقى حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي مجرد مساحة للتبريكات والتهاني والتعازي.
معركة الرواية الرسمية ليست خياراً، بل هي أحد أهم معارك الدولة الأردنية في مواجهة العواصف القادمة، والأردن ظلم سابقاً بشكل كبير، وغير مسموح بإعادة ذات الخطيئة بحقه، من خلال ترك الشارع عرضةً للتدخلات الخارجية وروايات أصحاب «الشنط المتجولة».
بالمحصلة، الرواية الرسمية ليست مجرد سردية إعلامية، بل هي خط الدفاع الأول عن الاستقرار الوطني، فهل نحن مستعدون لخوض هذه المعركة بجدية؟