هل تشكل النظام المالي العالمي الجديد؟ د. عدلي قندح
شهد النظام العالمي تغييرات جذرية في ميزان القوى الاقتصادية، مع بروز قوى اقتصادية جديدة تسعى إلى إعادة تشكيل النظام المالي والسياسي العالمي. من أبرز هذه القوى هي مجموعة بريكس، التي تتألف من البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا، وقد توسعت مع مطلع هذا العام لتظم دول مثل الامارات ومصر وإثيوبيا وايران. وتسعى هذه الدول إلى توفير توازن اقتصادي وسياسي عالمي جديد في مواجهة الهيمنة التقليدية التي تمثلها مجموعة السبع (G7)، التي تضم الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، المملكة المتحدة، فرنسا، كندا، وإيطاليا.
وكما هو معروف فان مجموعة بريكس تعتبر تحالف ناشئ يبحث عن تغيير قواعد اللعبة، حيث تأسست مجموعة بريكس في عام 2009 كمجموعة من الاقتصادات الناشئة الكبيرة التي تمتلك إمكانات اقتصادية ضخمة ونفوذ سياسي متزايد. الدول الأعضاء تمثل ما يقرب من 42% من سكان العالم و23% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. يسعى هذا التجمع إلى تعزيز التعاون بين أعضائه في مجالات الاقتصاد، التجارة، والتنمية، ويتبنى نهجًا تعدديًا لتعزيز النظام العالمي بعيدا عن النفوذ الغربي التقليدي.
تتمثل إحدى أهداف بريكس الرئيسية في إنشاء نظام مالي عالمي بديل أو موازٍ يعزز التجارة والاستثمار بين دول الجنوب العالمي ويقلل الاعتماد على الدولار الأمريكي. كما تمثل المجموعة تحالفًا سياسيًا يجمع بين دول ذات أنظمة سياسية واقتصادية مختلفة ولكنها تتشارك في الرغبة في كسر الهيمنة الغربية في الشؤون العالمية. المعضلة الكبرى التي تواجه تجمّع بريكس أنه لا يمتلك إلى الآن برامج للنهوض الجماعي للأعضاء أو لتحسين أوضاع الاقتصاد.
في المقابل، فان مجموعة السبع، الحارس التقليدي للنظام الاقتصادي العالمي، وتمثل مجموعة السبع الدول الأكثر تقدمًا اقتصاديًا في العالم. منذ تأسيسها في السبعينيات، كانت المجموعة عاملًا رئيسيًا في تحديد سياسات النظام المالي والاقتصادي العالمي، عبر التحكم في مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تتزامن اجتماعاتهما هذا الخريف أهمية لتزامنها مع الذكرى الثمانين لتأسيس مؤسستي بريتون وودز. تسيطر هذه المجموعة على نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي القوة المؤثرة وراء العديد من السياسات الاقتصادية العالمية التي تركز على تحرير التجارة، دعم الديمقراطية، وتشجيع حقوق الإنسان.
وفي إطار سعيها لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي، قامت الصين، كواحدة من القوى الرائدة في مجموعة بريكس، بإنشاء مجموعة من المؤسسات المالية الجديدة التي تهدف إلى تحدي الهيمنة التقليدية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أبرز هذه المؤسسات هي البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي تم تأسيسه في عام 2016 بقيادة الصين، ويهدف إلى تمويل مشاريع البنية التحتية في آسيا وخارجها. يعمل البنك الآسيوي كمنافس للبنك الدولي، ولكنه يركز بشكل أكبر على الاحتياجات التنموية للدول النامية التي تشعر بأنها لم تحصل على دعم كافٍ من المؤسسات المالية التقليدية. يتميز البنك بتبنيه إجراءات أقل صرامة مما يوفر للدول حرية أكبر في اختيار نوع المشاريع.
أما البنك الثاني فهو بنك التنمية الجديد، الذي تأسس في عام 2014 تحت رعاية مجموعة بريكس، ويهدف إلى توفير التمويل لمشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في الدول الأعضاء وخارجها. يتميز هذا البنك عن المؤسسات التقليدية مثل صندوق النقد الدولي بتقديمه قروضًا بشروط أكثر مرونة وبفوائد أقل، مما يجعله خيارًا جذابًا للدول النامية.
على الجانب الآخر، يمثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المؤسسات المالية التقليدية التي تتحكم في النظام المالي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. فقد تم تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بعد مؤتمر بريتون عام 1944، الذي عقد في غابات بريتون في ولاية نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي حضره ممثلون لأربع وأربعين دولة، لدعم الاستقرار الاقتصادي العالمي وتقديم الدعم المالي للدول التي تواجه أزمات اقتصادية.
صندوق النقد الدولي يقدم مساعدات مالية للدول التي تواجه مشاكل في ميزان المدفوعات، لكنه يشترط تنفيذ إصلاحات اقتصادية تقشفية مقابل تلك القروض. هذه الشروط غالبًا ما تُنتقد بأنها تفرض ضغوطًا على الدول النامية وتزيد من الفجوة الاجتماعية والاقتصادية.
البنك الدولي يركز على تقديم القروض والمساعدات التنموية للدول النامية لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة. ومع ذلك، تُنتقد سياساته أحيانًا لأنها تخضع لتوجهات الدول المانحة الكبرى، وخاصة مجموعة السبع.
ولدى إجراء مقارنة بين المؤسسات المالية الجديدة والتقليدية نجد أن البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية الجديد يتميزان بمرونة أكبر من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث لا تفرض شروطًا تقشفية قاسية، مما يجعلهما أكثر جاذبية للدول النامية التي تسعى لتفادي الأزمات الاجتماعية المرتبطة بالإصلاحات المفروضة. علاوة على ذلك، تركز المؤسسات المالية الصينية بشكل أساسي على تمويل مشاريع البنية التحتية، في حين يركز البنك الدولي وصندوق النقد على مجموعة واسعة من القضايا الاقتصادية، بما في ذلك الإصلاحات الاقتصادية والمالية.
وتعتمد المؤسسات التقليدية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشكل كبير على الدول الغربية، بينما تسعى المؤسسات الجديدة إلى تقديم بدائل تعكس مصالح الدول النامية، وتقلل من الاعتماد على القوى الغربية.
يشير ظهور مجموعة بريكس والمؤسسات المالية الصينية الجديدة إلى تحول كبير في النظام المالي العالمي يميل نحو نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب. في حين تظل مجموعة السبع والمؤسسات التقليدية مؤثرة، تسعى الدول النامية بقيادة الصين والهند إلى توفير بدائل أكثر شمولية ومرونة. في ظل هذا السياق، يمكننا أن نشهد تطور نظام مالي عالمي جديد متعدد الأقطاب، حيث ستكون هناك منافسة وتوازن بين القوى الاقتصادية القديمة والجديدة. ويظهر ذلك جلياً هذه الايام نظرا لانعاد اجتماعات السنوية لمجموعة بريكس في روسيا في الفترة 22 إلى 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 بالتزامن مع اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين التي ستعقد في واشنطن خلال الفترة 21 الى 26 تشرين أول/أكتوبر 2024، وهذه ليست صدفة.
يجمع الخبراء على أن النجاح المستقبلي للمؤسسات الجديدة يعتمد على قدرتها على تلبية احتياجات الدول النامية وتقديم حلول فعالة ومستدامة للتحديات الاقتصادية العالمية.
النظام المالي العالمي يشهد تحولات مهمة، لكنه لم يصل بعد إلى شكل جديد مستقر. القوى الاقتصادية الجديدة، مثل مجموعة بريكس، والمؤسسات المالية البديلة، والتكنولوجيا المالية، كلها عوامل تشير إلى أننا نعيش في فترة انتقالية نحو نظام مالي عالمي جديد قد يتشكل خلال العقود القادمة.