الحياة ليست مشروعاً فردياً
القس سامر عازر
تكشف هذه الآية «لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِنَفْسِهِ، وَلَا أَحَدٌ يَمُوتُ لِنَفْسِهِ» حقيقة الوجود الإنساني كله (رومية 7:14)، فهي إذ تحدد هويّة الإنسان ورسالة حياته على الأرض.
أن لا يعيش الإنسان لذاته يعني أن الحياة ليست مشروعًا فرديًا نُشيّده لأنفسنا، ولا سعيًا أنانيًا للراحة والمكانة والنجاح. فالحياة ليست دائرة مغلقة على رغباتنا ومصالحنا، بل هي إدراك أن كل نَفس بشرية هي عطيّة، وكل موهبة وصحة ووقت بمثابة وديعة، فنحن لا نملك سوى أن نخدم بما لدينا من مواهب وبركات. وهذه الحقيقة يعبّر عنها القديس أغسطينوس بقوله :
«قلبُ الإنسان لا يجد راحته إلا عندما يستقرّ في الله، لأنه خُلِق له وليس لذاته.»
فعندما يستقر القلب في الله، تتراجع حدود «الأنا» لتفسح المجال لصوت الله فينا ولوجود القريب معنا.
وعندما لا نعيش لذواتنا، تبدأ حدود «أنا» بالتراجع لصالح «نحن»، وينكشف وجه القريب الذي يصير جزءًا من رسالتنا. فنرى الفقير ليس كحالة اجتماعية، بل كمسؤولية على طريقنا. ونرى أننا جزء من جسد واحد نحمل معه أوجاعه وآماله. وننهض كل صباح ونحن نسأل: يا رب، من تريدني أن أخدم اليوم، وما هو الجزء الذي عليّ أن أقوم به في ملكوتك؟
ومعنى ألّا يموت الإنسان لذاته هو أن الموت ليس فقط الرحيل الجسدي، بل يشمل أيضًا موت الكبرياء والأنانية والإرادة الخاصة عندما تتعارض مع إرادة الله. أن نموت لا لذواتنا يعني أن يكون ختم حياتنا على اسم الله، لا على اسمنا، وأن يكون موتنا نفسه شهادة لإيماننا. فحتى اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان تحمل رسالة، وكأن كلمات القديس بولس تقول، إن موتكم نفسه ليس ملكًا لكم، بل هو فعل إيمان أخير، ومسيرة تُكمِل ما بدأه الله في حياتكم.
أن تكون حياتنا بالكامل لله يعني أن يكون الله هو المبدأ وهو الغاية، وأن تتأسّس قراراتنا اليومية على مشيئته لا على مزاجنا. يعني أن نقوّم علاقتنا بالآخرين على ميزان الغفران والمحبة، وأن نسأل عن دورنا في بناء السلام لا عن مكاسبنا الشخصية، وأن نزن كلماتنا وأفعالنا بميزان البذل الحقيقي. فالحياة لله ليست فكرة لاهوتية مجرّدة، بل ممارسة يومية تبدأ في أبسط تفاصيل يومنا: في طريقة تعاملنا مع أولادنا، وفي احترامنا للإنسان، وفي أمانتنا في العمل، وفي وإنتمائنا لأوطاننا، وفي شفافيتنا في المواقف الصعبة، وفي وقوفنا إلى جانب من يحتاج كلمة عزاء أو مساعدة عملية.
وعندما نحيا هذه الحقيقة، تتحول الحياة إلى رسالة واضحة: نحب دون حساب لأن محبتنا ليست ملكًا لنا، نسامح لأن الغفران أصبح هويتنا، نعطي لأن ما بين أيدينا ليس لنا، نرجو الخير لأن رجاءنا ليس في قوتنا بل في الله، ونسير بثقة لأن حياتنا لم تعد لنا بل لله الذي أحبنا
إنها دعوة إلى تحوّل جذري، فمَن يعيش لنفسه يضيق عالمه ويخبو نوره، أما من يعيش للرب فيتّسع قلبه حتى يصير حياة للآخرين. فليكن هذا الإعلان مرآة لحياتنا: أن نحيا للرب، وأن يكون موتنا أيضًا للرب، حتى تنطبع بصمته في كل خطوة من خطواتنا، ويصبح حضورنا شهادة عليه في هذا العالم.








